أيّ تصورات يعجّ بها مخيال المسلم؟

03-08-2025

لعله من الضروري أن نميز بين المعرفة التي تتيح فهم أصول العقائد الإسلامية وكيفية تشكلها ضمن الأطر الاجتماعية ومن خلال عملية مأسسة خضع لها الإسلام مثل غيره من الديانات، وهي معرفة علمية تدرس الإسلام باعتباره ظاهرة تاريخية متجذرة في سياقها الاجتماعي والثقافي والإناسي، وبين التصورات والتمثلات التي تملأ مخيال المسلم في علاقته بتراثه الديني وبها تتشكل صورته عن نفسه وتتحدد علاقته بغيره وطريقة حضوره في العالم، ويصبح المسلم مسلوباً تماماً إزاء هذه التصورات و"يحركه خيال عاطفي مشحون بصور خيالية، هلوسية وأسطورية ولا تاريخية عن الإسلام والماضي الإسلامي"، على حد عبارة المفكر محمد أركون.

 وفي واقع الأمر يُلقن المسلم من خلال وسائل التنشئة الاجتماعية سواء في مستوى رسمي (المدرسة، المؤسسات الدينية، إلخ..) أو شعبي (البيت، الشارع، إلخ..) –رغم ما بين المستويين من فروق- جملة من التمثلات التي يتلقاها باعتبارها عقائد وتكتسي قدراً من البداهة حتى إنه لا يرقى إليها الشك، ويمكن أن نوجز أهمها في النقاط التالية:

-      الإسلام هو الدين الحق وما سواه باطل وكفر، والعالم فسطاطان: فسطاط المسلمين وهم أهل الحق وأتباع الدين الذي اختاره الله لكافة البشر، وفسطاط غير المسلمين وهم كل أولئك الذين جحدوا رسالة الإسلام ورفضوا الإيمان بها.

-      في الإسلام نسخة تمثل "الإسلام الصحيح"، ونسخ أخرى تشوبها شوائب التحريف والانحراف بدرجات متفاوتة. ورجاء المسلم الصادق أن يبلغ في تدينه درجة "الإسلام الصحيح"، لذلك هو يبحث عمن يهديه إلى هذه النسخة. 

-      أعداء المسلمين هم أعداء الدين وأعداء الله. ويقتضي الواجب مواجهتهم بشتى السبل، بما فيها المحاربة والمقاتلة تطهيراً للأرض من شرورهم، وإعلاءً لكلمة الله الحاكمة.

-      الجهاد هو حرب المسلمين المقدسة التي بها تمكن السلف من نشر الإسلام، وهو حصن المسلمين لحماية بيضة الإسلام وصد أعدائهم، والعنف الذي يمارس في نطاق الجهاد عنف مشروع.

-      طموح المسلمين النهائي وخلاصهم الأخروي الفردي والجماعي في الفوز بالجنة، والسبل إلى ذلك متعددة؛ منها سلامة العقيدة والالتزام باتباع الطريق التي رسمها الله لعباده ومنها الجهاد في سبيل الله.

-      سخر الله زمرة من الرجال في قرون الإسلام الأولى حفظوا رسالة النبي (ص) وحافظوا عليها، ولهم مآثر وبطولات خلدها التاريخ الإسلامي، فردوا الخصوم ودحروا الأعداء ونشروا الإسلام في أرجاء الأرض وأسسوا الدولة الإسلامية، وعصرهم هو عصر الإسلام الذهبي ونموذجهم هو أفضل النماذج. ومن واجب المسلم ومن تمام عقيدته احترامهم وتوقيرهم، والعمل على الاحتذاء بهم، وهكذا يتم إضفاء هالة من المثالية على هؤلاء الرجال وعلى تاريخهم. 

-      المسلم محكوم بشرع الله لا يجوز له أن يخالفه، وهو شامل يحكم تفاصيل حياته؛ ففيه إجابة عن كل ما يعترضه في حياته وما يطرح عليه من أسئلة. وهو أبدي صالح لكل زمان ومكان، ويكون المسلم في تقيده بأحكامه على الصراط المستقيم ويضمن معاشه ومعاده.

-      إن هذا الشرع محفوظ في القرآن كتاب الله –والمصحف الذي بين أيدينا اليوم مطابق له تماماً- وفي سنة النبي التي تمكن المسلمون من نقلها وضمان استمراريتها من خلال كتب الحديث، وخاصة صحيحي البخاري ومسلم، وفي مدونات الفقهاء ومصنفات علماء الدين.

-      شرح شرع الله مهمة حصرية لعلماء الدين وشيوخه، فهم بحكم تكوينهم يمتلكون المؤهلات للقراءة والتفسير ووضع القواعد والاستنباط. وقد شكلوا سلطة في نطاق المهام الموكولة إليهم لها القول الفصل في التعامل مع كلمة الله وفي تنظيم العلاقات الاجتماعية، والمسلم مدعو إلى الرجوع إليهم. 

 ونتبين من خلال ما تقدم أن هذه التصورات تنهض على أعمدة ثلاثة: عماد أول قوامه النصوص على تنوعها؛ فمنها الإلهي (القرآن) والنبوي (الأحاديث والسنن) والبشري (مدونات التفسير والأصول والفقه..)، وقد اكتسبت هذه النصوص حضوراً متعالياً في ضمير المسلمين فهي، من منظور الثقافة السائدة، تشمل مبادئ الإسلام وأحكامه وثوابته دون قدرة على التمييز بين المقدس منها والبشري. وعماد ثانٍ قوامه سلطة الرجال من الصحابة والتابعين إلى العلماء والشيوخ، ولهم في وجدان المسلمين مكانة رفيعة؛ فهم من يصلونهم بالدين ونصوصه، ومن تمام إيمان المسلم أن يتبع أقوالهم. وعماد ثالث قوامه أمْثَلَة التاريخ الإسلامي وتحويله إلى ميتا-تاريخ حافل بالأمجاد والمآثر والبطولات ومحمل برمزية السيادة على العالم، وقد كانت عملية التحويل نتيجة لما تشكل من تصورات لجملة من الوقائع والأحداث على غرار "الفتوحات" و"صد الصليبيين" إلخ.. ولمجموعة من الشخصيات من أمثال خالد بن الوليد وعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهم..

 ويتشرب المسلم هذه التصورات باعتبارها حقائق مطلقة ثابتة لا تحتمل التنسيب والمراجعة والنقد، ولا يستقيم إيمانه ولا يصلح إسلامه إلا إذا اعتنقها، وتنغرس في شخصيته جملة من الخصائص التي هي آليات تتحكم في الطريقة التي بها يفكر، فتجده ميالاً إلى التقليد والاتباع، ومستعداً لتصديق كل من يتكلم باسم الدين، ومعرضاً عن إعمال العقل باستقلالية، ونازعاً إلى التعصب ورفض الآخر.

 تبدو الحاجة ماسة اليوم إلى إعادة النظر في مناهج التعليم وفي نمط المعارف الدينية، على قاعدة تسليح الناشئة بالوسائل والعلوم الضرورية لدراسة الموروث الديني والتاريخ الإسلامي وفق المقاربات العلمية الحديثة، عسى أن يكون ذلك مدخلاً لتفكيك تلك التصورات وإدراك المسافة بينها وبين حقيقة الدين في ذاته، ولأن تُبنى علاقة المسلم المعاصر بدينه وبتراثه على أسس علمية صلبة تسمح له بالوعي بحاجته النفسية والروحية للدين، بما يضفيه من معنى على الوجود من جهة أولى، وبنسبية ما خلفه السلف من نظم عقائدية وقيمية وتشريعية من جهة ثانية، وبحقه الأصيل في المخالفة والإبداع على غير منهجهم وبما يستجيب لشروط انخراطه في زخم الحياة المعاصرة من جهة ثالثة.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

من الخطاب القرآني إلى المقالة الفقهية: تسييج المعنى من أجل استنباط الحكم

د. فريد بن بلقاسم

15-01-2025

آراء الكتاب

المواريث في القرآن وفي أحكام الفقهاء (4) علم الفرائض بين الديني والثقافي

د. فريد بن بلقاسم

20-04-2025

آراء الكتاب

بأي معنى يمكن أن نفهم أن القرآن صالح لكل زمان ومكان؟

د. فريد بن بلقاسم

06-01-2025

آراء الكتاب

المواريث في القرآن وفي أحكام الفقهاء (3) الفرائض في القرآن بين المصرَّح به والمسكوت عنه

د. فريد بن بلقاسم

05-04-2025

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

ارسل بواسطة