أي وجاهة اليوم للقول بأن القرآن كتاب تشريع؟

15-07-2025

تتمسك قطاعات من المسلمين، سواء بدوافع إيمانية عفوية أو بدوافع أيديولوجية أو من موقع المصلحة، بالموقف الذي يقول بأن القرآن كتاب تشريع، ويرون أنه من الضروري أن تكون التشريعات المنظمة لأحوال الدولة والمجتمع متلائمة مع التشريع القرآني، ويرفضون أي نقاش حول هذه القضية بدعوى أنها محسومة نصاً وتقليداً، ويبدو النظر في وجاهتها وصلاحيتها غير مفكر فيه ولا مطروح للتداول، بل ويذهب الغلاة من دعاة الإسلاموية الحركية إلى تكفير من لم يلتزم بهذا الموقف، سواء كانوا من الرسميين أو من النخب أو من الأفراد.

من المعلوم أن اعتبار القرآن مصدراً للتشريع هو الموقف الذي رسخه التقليد الأصولي الفقهي الموروث؛ فقد بنى الأصوليون "نظريتهم" في قواعد الاستدلال على استنباط الأحكام الشرعية على موقف مبدئي يعتبر القرآن حجة على جميع الناس، وأن حجيته قائمة في ذاته بما أنه كلام الله المنزل وفيه من الآيات الصريحة التي لا تدع مجالاً للشك في ضرورة اتباع أحكامه والالتزام بها، ودلت سيرة النبي (ص) وآثار الصحابة على هذا النهج في التعامل مع القرآن. وقد اختزل الشافعي هذا الموقف الأصولي الراسخ من القرآن باعتباره دليلاً شرعياً في قوله: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة، إلا وفي كتاب الله دليل على سبيل الهدى فيها"، ويؤكد في قول آخر هذه القاعدة موضحاً طابع القرآن الشمولي، واستيعابه جميع ما يمكن أن ينزل بالمسلم، سواء كان ذلك نصاً أو إجمالاً: "وليس يؤمر أحد أن يحكم بحق إلا وقد علم الحق، ولا يكون الحق معلوماً إلا عن الله نصاً، أو دلالة عن الله، فقد جعل الله الحق في كتابه، ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فليست تنزل بأحد نازلة إلا والكتاب ينص عليها نصاً أو جملة".

 إن تفكيك الخطابين الأصولي والفقهي ووضعهما في سياقهما التاريخي، وضمن الأطر الاجتماعية لإنتاج المعرفة في عصرهما، يضعنا أمام حقيقتين:

الأولى: لقد استند الفقهاء إلى هذه القواعد الأصولية في استنباط الأحكام، وهو ما جعلهم يعتبرونها أحكاماً شرعية، والحال أنها قوانين بشرية وضعية منطلقها الاجتهاد، سواء فيما ورد فيه نص أو فيما لم يرد، وحتى ما كان فيه دليل من القرآن فقد احتاج إلى الاجتهاد فيه تفصيلاً وتوسعاً في بيان المراد منه، فليس هناك حكم توقف فيه الفقيه عند ما نص عليه القرآن ولم يزد عليه، ناهيك بما لم يرد فيه نص؛ إذ لم يستوعب القرآن بعد انقطاع الوحي جميع ما طرأ على حياة المسلمين من حالات ونوازل في جميع الأزمنة؛ إذ الوقائع غير متناهية والنصوص متناهية. 

والحقيقة الثانية: إن الإصرار على اعتبار هذه الأحكام أحكاماً شرعية يتأسس على رؤية العالم السائدة في ذلك العصر، وهي رؤية تقوم على إضفاء المشروعية الدينية على كل المؤسسات المجتمعية وعلى كل الأفعال التي يأتيها الناس، وهو ما يعني أن التشريع، باعتباره إحدى أهم المؤسسات المنظمة للمجتمع وللعلاقات بين مكوناته، يستمد وجاهته ومقبوليته من الدين، ولذلك حرص الأصوليون والفقهاء على ربط كل ما أنتجوه ربطاً وثيقاً بمفهومي الشرع والشريعة، ووصل ذلك بالشارع الذي هو الله، وأن اجتهادهم ليس سوى استفراغ الوُسْع في النظر في الأدلة الشرعية لمعرفة أحكام الله في أفعال المكلفين.

 لقد توارثت أجيال المسلمين هذه الرؤية الأصولية والفقهية للقرآن، وباتت جزءاً من المسلَّمات التي يعسر النقاش حولها وإعادة النظر فيها، بل إن دعاة جماعات الإسلام السياسي يساوون بين "الشريعة" و"القرآن"؛ يقول عبد القادر عودة، في كتابه "الإسلام وأوضاعنا السياسية": "والشريعة التي أنزلها الله على رسوله وألزمنا اتباعها والعمل بها ليست إلا كتاب الله الذي يقرأه المسلمون ويستمعون إليه في كل صباح ومساء". غير أن تطور المعارف الحديثة من ناحية، والتحولات في أوضاع المسلمين التاريخية في جميع جوانب الحياة من ناحية ثانية، يستدعيان الوقوف عند صلاحية هذه الرؤية الأصولية والفقهية ووجاهة استمرار حضورها والعمل بها. 

ويمكن أن نلمع في هذا المضمار إلى ملاحظتين؛ الأولى أن القرآن ذو أبعاد متعددة، ومنها البعد التشريعي المرتبط بسياق التنزيل من جهة، والمنفتح على التأويل ضرورة باعتباره خطاباً لغوياً من جهة أخرى، فلا يمكن بأي حال التعامل معه باعتباره مجلة قانونية تتضمن أحكاماً تشريعية واضحة ودقيقة وشاملة، وحتى إن نظرنا إلى ما فيه من "أحكام" من جهة كونها قواعد للتشريع، فإن الأمر خارج سياق التنزيل لا يعدو أن يكون توجيهات تُعبر عن القيم القرآنية العليا. والملاحظة الثانية أن التحولات التي مر بها المسلمون في العصر الحديث –لا سيما من جهة التنظيم في إطار الدولة الوطنية الحديثة واحتكار مؤسساتها لعملية التشريع، ومن جهة التغيرات في بنية المجتمع وفي العلاقات الاجتماعية- ولدت أوضاعاً جديدة غير مألوفة، وأثرت في الرؤى الفكرية والمعرفية، وفي دور المؤسسات الدينية والقائمين عليها، وفي مكانة الدين ودوره. ولئن ظلت الحاجة إلى الدين قائمة في مستوى الأفراد باعتباره مورداً روحياً وإيمانياً وأخلاقياً ومجالاً للتعبد وتطهير النفس والاستقامة، فإن اعتباره مورداً أيديولوجياً للتنظيم السياسي والاجتماعي بات أمراً يُثير الجدل والريبة والرفض لما ينتج عن ذلك من انقسامات وتوترات. 

 وإذا كان الأمر على هذا الحال، أليس من الأجدى والأصلح أن تُبنى علاقة المسلم بالقرآن على أساس أنه كتاب هُدى وهِداية في أبعاد حياته الروحية والإيمانية والوجدانية والأخلاقية والقيمية، وأن يُحفظ مكانةً ودوراً بعيداً عن توظيفه في المسائل التنظيمية المعقدة والمتشابكة والمحكومة بالمصالح والرهانات بين مختلف الفئات الاجتماعية، وأن يُفصل بين التشريع وقواعد الفقه وأحكامه في ظل مفهوم مدنية الدولة والمجتمع اليوم؟

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

من الخطاب القرآني إلى المقالة الفقهية: تسييج المعنى من أجل استنباط الحكم

د. فريد بن بلقاسم

15-01-2025

آراء الكتاب

المواريث في القرآن وفي أحكام الفقهاء (4) علم الفرائض بين الديني والثقافي

د. فريد بن بلقاسم

20-04-2025

آراء الكتاب

بأي معنى يمكن أن نفهم أن القرآن صالح لكل زمان ومكان؟

د. فريد بن بلقاسم

06-01-2025

آراء الكتاب

المواريث في القرآن وفي أحكام الفقهاء (3) الفرائض في القرآن بين المصرَّح به والمسكوت عنه

د. فريد بن بلقاسم

05-04-2025

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

ارسل بواسطة