يُعدّ الحديث المعنعن أحد الأعمدة الأساسية التي اعتمدها جمهور المحدثين في نقل الرواية، والعنعنة –في اصطلاح المحدثين– هي قول الراوي في الإسناد: عن فلان، دون التصريح بالسماع المباشر بلفظ مثل: سمعت أو حدثني. وقد جرى جمهور المحدثين على قبول هذا النوع من الرواية وعدّ هذه الصيغة بقوة "سمعت" و"حدثني"، وذلك ضمن اشتراطات معينة سنذكرها أثناء الإجابة عن هذا السؤال:
هل تُعد هذه الصيغة المعنعنة اتصالاً؟!
الجواب:
إن المحدثين انقسموا إلى قسمين أو موقفين:
الأول: لا تفيد الاتصال. بل هي من المنقطع حتى يتبين الاتصال. طبعاً وهذا ما يفرضه ويقبله العقل والمنطق السليم.
الثاني: تفيد الاتصال ضمن اشتراطات اختلف فيها، وهي:
1- مسلم بن الحجاج: اشترط المعاصرة بين الراوي وشيخه مع إمكان اللقاء والبراءة من التدليس. أي: الراوي لم يثبت أنه التقى بشيخه الذي روى عنه، وقال الراوي (عن) وهو ثقة = فهذا يكفي للحكم بأن هذا الحديث إسناده متصل من باب تحسين الظن.
2- البخاري: يرى أن المعاصرة لا تكفي لوحدها، ولذا اشترط ثبوت اللقاء بين الراوي وشيخه ولو مرة واحدة.
3- قول أبي عمرو الداني: أن يكون الراوي معروفاً بالرواية عن شيخه.
4- قول أبي مظفر السمعاني: طول الصحبة بين الراوي وشيخه.
5- قول أحمد بن حنبل وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين باشتراط السماع.
ونلاحظ أننا إذا أخذنا بشرط البخاري ستسقط أحاديث كثيرة عند مسلم، وإذا أخذنا باشتراط السماع أو طول الصحبة كم سيتبقى من أحاديث البخاري ومسلم.
ونحن نرى أن العنعنة تُعد من المنقطع والمرسل، وهو الرأي الصواب وهو رأي عند المحدثين ولكنه رأي مهجور وغير معمول به؛ وذلك لأن القول به لن يبقي حديثاً واحداً يحكم عليه بالاتصال، لأنه لا يكاد يوجد رواية تخلو من العنعنة في سندها.
ومما سبق تظهر لنا إشكالات عديدة، منها:
أول إشكال جوهري في العنعنة هو غياب اليقين في الاتصال، إذ إن الراوي قد يعاصر الشيخ ولا يلقاه، أو يلقاه ولا يسمع منه، أو يسمع منه حديثاً فينسب إليه أحاديث أخرى بطريق المجاز في الرواية. ومن هنا نشأت معضلة التدليس التي أقرّ بها المحدثون أنفسهم.
الإشكال الثاني هو الاعتماد المفرط على الثقة الشخصية وحسن الظن في الحكم على صحة الحديث. فالمحدثون إذا وثقوا بالراوي قبلوا عنعنته، وإذا شكّوا في عدالته ردّوها، وهو معيار ذاتي نسبي يخضع لتأثير المذهب والموقف السياسي والبيئة الاجتماعية، وليس لبرهان قطعي على الاتصال.
أما الإشكال الثالث فهو التناقض بين العنعنة ومقاصد التوثيق العلمي. فالبحث العلمي الحديث يشترط الشفافية الكاملة في ذكر المصادر والوسطاء، في حين أن العنعنة تسمح بإخفاء وسيط أو أكثر، مما يجعلها أداة غير كافية للتحقق العلمي.
إن العنعنة، بضوابطها التقليدية، تمثل أداة ظرفية قد تكون صالحة لبيئة محددة في القرون الأولى، لكنها ليست معياراً علمياً كافياً للحكم على صحة الأخبار في عصرنا، وخاصة إذا تباعدت الأزمنة وتعدد الرواة في الطبقات.
كما أن الاقتصار على صحة الإسناد بعنعنته يغفل جانب المتن، إذ يمكن لسند "صحيح" وفق معايير المحدثين أن يحمل متناً يتعارض مع القيم القرآنية أو مع الواقع التاريخي الموثق، مما يعني أن العنعنة ليست سوى مرحلة أولى في الفحص، ولا تكفي وحدها لإثبات صحة الرواية.
والمطلوب اليوم ليس إلغاء العنعنة من الدراسات الحديثية، بل وضعها في إطارها التاريخي كأداة من أدوات النقل الشفهي، مع إعادة تقييم الروايات وفق منهج متعدد الأبعاد: نقد لساني يدرس ألفاظ المتن وسياقه، ونقد تاريخي يحقق إمكانية وقوع الحدث المروي، ونقد سيميائي يقرأ البنى الرمزية التي قد تكشف عن وضع الحديث لأغراض مذهبية أو سياسية.
إن العنعنة، برغم مكانتها في علوم الحديث، ولكنها ليست عصا سحرية تمنح الرواية صدقية مطلقة. هي أداة إجرائية ارتبطت بظروف عصرها، ويجب التعامل معها اليوم بحذر نقدي، مع إدراك محدوديتها، وضرورة استكمالها بمعايير أكثر دقة وشمولاً. فإعادة قراءة الموروث الحديثي في ضوء هذه الرؤية تمثل خطوة أساسية نحو تجديد الخطاب الديني وتصحيح المفاهيم.