التجديد الديني بين النص القرآني والواقع المعاصر

يواجه المجتمع الإسلامي عامة تحديات كثيرة وخطيرة على كافة المستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية وغيرها، مما يعزز ضرورة التجديد الديني. والتجديد الذي نقصده ليس تجديداً يعتمد على إصلاحات جزئية أو انتقائية وفق الأهواء، بل هو معتمد ومتصل بالنص القرآني وعلاقة المسلم المعاصر بالموروث الثقافي والفقهي.

يُعد القرآن الكريم النص المؤسس للعقيدة والمفاهيم والأحكام والقيم لكل مسلم بصرف النظر عن مذهبه، وهو المرجع الأعلى الذي يُفترض أن يُبنى عليه أي مشروع تجديدي. وفيه إشارات متكررة إلى أن الدين جاء ليكون صالحاً لكل زمان ومكان، عبر مبادئ عامة وقيم إنسانية كبرى، منها العدل، والحرية، والمساواة، وحفظ الكرامة الإنسانية. وهذا يعني أن التجديد ليس إدخال ما ليس من الدين فيه، ولا هو إلغاء لمقاصده، بل هو إعادة وصل النص القرآني بواقعه الحي، بما يحفظ مقاصده ويحقق مصلحة الناس في زمانهم، ويدفع الضرر أو يرفع الحرج عنهم.

إلا أن الممارسة التاريخية للمسلمين أظهرت أن نصوصاً كثيرة تم اختلاقها تحت مسميات عديدة منها منسوب للنبي الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، أو منسوب للصحابة أو أهل البيت، ونحوها. أيضاً فهم النصوص القرآنية كثيراً ما خضع لسلطة الفقهاء والمفسرين والمحدثين، الذين أنتجوا تراكماً معرفياً ضخماً تم تقديمه على أنه هو الشريعة والعقيدة والدين. وهنا يأتي دور التجديد الديني ليعيد النظر في هذا التراكم، ويميز بين ما هو من الدين وما هو منسوب للدين، وبين الاجتهاد البشري الظرفي، وما هو وحي إلهي ثابت.

ولعل أبرز ما يواجه التجديد هو تقديس الموروث الفقهي والحديثي، والتعامل مع الشروح والتفاسير وكأنها نصوص مقدسة لا تقبل النقاش. على سبيل المثال، نجد أن الكثير من الأحكام الشرعية المعمول بها اليوم تعتمد على روايات آحاد منسوبة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، قد تعارض مقاصد قرآنية واضحة كحرية الاعتقاد والتعددية الفكرية والدينية والمساواة بين الناس والمفاضلة على أساس العمل الصالح وليس الاعتقاد. فنجد روايات كثيرة عن قتل المرتد. كما أن علوم الحديث نفسها بنيت على منهجيات بشرية تحمل الكثير من التناقضات مثل نظرية الإسناد والعنعنة وما يتصل بذلك، وهذه المنهجيات المتبعة في الروايات والتي كانت أداة ضبط في زمنها حسب وجهة نظر من يقول بها، لا تمثل ضمانة لصحة المضامين التي تحويها.

إلى جانب ذلك، ثمة إشكال في آلية التعامل مع الواقع المعاصر؛ إذ كثير من الخطاب الديني لا يزال أسير مفاهيم ومصطلحات القرن الثالث الهجري الذي بدأ بعده عصر التقليد، ثم عصر ترسيخ التقليد، في حين أن التحديات الفكرية والاقتصادية والسياسية اليوم مختلفة جذرياً. وهذا الفاصل الزمني والمعرفي يجعل الكثير من الفتاوى والمواقف التراثية غير صالحة للتطبيق أو حتى مضرة في بعض الأحيان.

التجديد في جوهره عملية نقدية مزدوجة: نقد للنصوص المنسوبة إلى الدين حين تخالف القرآن أو القيم الإنسانية، ونقد للقراءات التي تحصر الدين في قوالب تاريخية جامدة. هذه العملية تتطلب أدوات متعددة: 

 النقد اللساني: الذي يدرس دلالة الألفاظ في سياقها القرآني الأصلي لا بمعناها الثقافي المتغير.

والنقد التاريخي: الذي يضع النصوص في سياقها الزمني والثقافي.

 والتحليل السيميائي: الذي يكشف البنى الرمزية والمضمرات التي قد تشير إلى اختلاق أو: توظيف معين، وقد نشرت ثلاث مقالات سابقة تحت عنوان (الحديث والرمز) أوضحت فيها هذه الفكرة بأمثلة عديدة.

كما أن التجديد لا يعني الانفصال عن التراث أو القطيعة معه، بل يعني الانتقاء الواعي منه، والاستفادة من اجتهادات الأقدمين حين تنسجم مع القيم القرآنية، وترك ما تعارض معها. وهذا الفعل التجديدي يُعد أقرب إلى إعادة ترتيب البيت الداخلي، لا هدمه ولا تقديسه.

إن غياب التجديد يفتح الباب أمام تيارات التطرف التي تبرر العنف والتمييز باسم الدين، كما يفتح الباب أمام ردود فعل معاكسة تحارب الدين كرد فعل على جمود الفكر الديني التاريخي. وأما التجديد المنضبط بالقرآن، فيحفظ الهوية الدينية وفي الوقت نفسه يضمن مرونتها وقدرتها على التكيف مع العصر ومستجداته.

إن التجديد الديني ليس ترفاً فكرياً كما يظن البعض، بل هو ضرورة وجودية لمجتمعات تسعى للتقدم دون أن تفقد جذورها الروحية. وهو مشروع يتطلب شجاعة معرفية لمساءلة الموروث، وبصيرة لفهم مقاصد النص القرآني، ووعياً بالتحولات المعاصرة. وبدون هذه العناصر، يبقى التجديد مجرد شعار يرفعه البعض دون أثر حقيقي في وعي الناس وسلوكهم.