التحريم بين النص والهوى: قراءة قرآنية في مفهوم الحرام

28-07-2025

في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتتنازع فيه الفتاوى، لا تعود المشكلة في وفرة الخطاب، بل في هشاشته وتفكّكه، وفي طغيان الصوت على المعنى، والسلطة على البرهان. ولعلّ من أعقد القضايا التي التُويَ فيها اللسان، وتراكب فيها الادّعاء فوق النصّ، هي قضية الحلال والحرام.

وما من ميدانٍ في الفكر الديني خضع لتوسعة اصطلاحية وتحكّمٍ بشريٍ كما خضع له هذان المصطلحان، حتى غدا التحريم مطيّة سهلةً في فم الفقيه، وسوطاً فكريّاً يُسلَّط على الناس من فوق المنابر ومن خلال شاشات الإعلام الديني، دون تثبّتٍ من مرجعيّة النصّ ولا انضباطٍ بمنهج القرآن.

وليس أشدّ غرابةً من أن تفتح اليوم أي برنامجٍ للفتاوى، فتجد السائل يطلب حكم مسألةٍ، فيُقابل بالتحريم الصارم كأول خيار، وربما الخيار الوحيد!

وكأنّ التحريم صار الخطّ الأساسي، والأصل الأوّل، لا الاستثناء الأخير. بل أصبح يُطلق على أبسط الأمور الفكرية، أو أنماط العيش اليومية، أو حتى على تساؤلاتٍ بريئة لا تتعدّى حدود الفكر، فيُقال عنها: "هذا حرام!"، وكأنّما الدين بُني على قائمة من المحرمات لا تنتهي!

ولكن، إذا رجعنا إلى القرآن، إلى كتاب الله الذي جعله الله تبياناً لكلّ شيء، هل نجد أن دائرة الحرام بهذه السعة؟

كلا، بل نجد على العكس، أنّ القرآن قد أحاط قضية التحريم بسياجٍ محكم، وجعلها ضيّقةً لا تُفتح إلا بنصٍّ واضحٍ قاطع، ونسبها حصريّاً إلى الله وحده.

يقول تعالى:

﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ (النحل: 116).

إنه تحذيرٌ صارخ، لا للفقيه وحده، بل لكلّ من يتكلّم باسم الدين، بأن لا يصف شيئاً بالحلال أو الحرام من تلقاء نفسه، فإنّ في ذلك افتراءً على الله بالكذب.

فالتحريم في القرآن ليس تكييفاً عرفيّاً ولا حكماً مزاجيّاً، بل هو وصفٌ ربانيٌّ دقيق، لا يُقال فيه بشيء إلا عن علم، وبسلطانٍ من النصّ، لا بالانطباع، ولا بالمألوف والذوق والشيوع.

بل ويزيد القرآن في توضيح هذه الحقيقة حين يُبيّن كيف كان الناس يُحرّمون ما أحلّ الله، ويظنّون أنهم يحسنون صنعاً. يقول تعالى:

﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلَالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ (يونس: 59).

فما الذي يدفع الإنسان إلى أن ينسب إلى الله ما لم يُنزّله؟ أهو الورع؟ أم هو الخوف؟ أم هي شهوة السيطرة باسم المقدّس؟

إنّه الميل الخفيّ نحو احتكار الفهم، وادعاء الوكالة عن الله في تصنيف الأشياء، وكأنّ الدين لا يُفهم إلا عبر قناةٍ واحدة، ولا يُقرأ إلا بمنظارٍ مصنّع في أيديهم.

إن دائرة التحريم في القرآن ليست قائمةً من المحرَّمات، بل هي منهج إدراكٍ للأشياء: أن لا تقول ما لم يُقل، وأن لا تُحرِّم ما لم يُحرَّم.

فالتحريم الحقيقيّ لا يُقاس بظنٍّ أو رأي، بل يُقاس بمصدره: هل أذن به الله؟ أم أُسند إلى بشرٍ يُصيب ويخطئ؟

ولذلك فإن كلَّ أمرٍ لم يُحرِّمه الله في كتابه، ولم يأت فيه تحريم بنصّ بيّن أو منع ونهي صريح، فالأصل فيه الإباحة، لا التردد، والتوسعة، لا التحفّظ، والحرية، لا الحظر.

وفي ضوء هذا المبدأ، تتكشّف لنا إحدى قواعد القرآن الكبرى في التشريع: أن الله لا يحرّم إلا ما يُفسد الفطرة، أو يعتدي على الحقوق، أو يفسد ميزان الحياة.

ولذلك قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (المائدة: 87).

فهل بعد هذا يمكن أن يقال عن طعامٍ، أو لباسٍ، أو لفظٍ، أو فكرةٍ: "حرام"، دون حجة بيّنة من الله؟

بل الأعجب أن يُقال إنّك لا تفهم القرآن إلا عبرهم، ولا تميّز بين الحلال والحرام إلا بهم، وإلا ضللت!

هذا –في حقيقته– ليس احتكاماً إلى النص، بل اختزالٌ للدين في شخص، واستبدالٌ للسلطة الإلهية بسلطة بشرية ترتدي لباس القداسة.

 إننا لا ندعو إلى الانفلات من الضوابط، ولا إلى التسيّب في الأحكام بتجاهل النهي والمنع والاجتناب حيث لها موازين أخرى سيأتي الحديث عنها لاحقاً، بل ندعو إلى التحرّر من التحكُّم باسم الله تعالى في التحريم. إلى أن نعود إلى القرآن، ونحتكم إلى بيانه، ونسأل أنفسنا: هل ما نراه حراماً، قاله الله؟ أم قاله من قال عن الله ما لم يُؤذَن له به؟

يقول تعالى:

﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ۚ﴾ (الشورى: 21).

فالحلال بيّن، والحرام بيّن، وما بينهما فمتروكٌ للعقل والضمير والميزان، لا يُفهم إلا بمنطق القرآن، لا بمنطق التكرار.

وما لم نقف هذا الموقف الجريء أمام سيل التحريمات، سنظل نُخاطَب كأتباع لا كعاقلين، وكأنّ الدين لا يُفهم إلا بوسيط، ولا يُقرأ إلا تحت رعاية المُصدّرين.

لكن القرآن، دائماً، يفتح لنا طريقاً آخر: طريقاً مستقيماً، لا اعوجاج فيه، ولا حجر على العقول، ولا حجر على الحياة.

هو طريقٌ يقول فيه الله لعباده: "قل"، لا "اسأل عنّي"، بل "قل"، أي تكلّم، وافهم، ووازن، واختر، فـ"قل أرأيتم ما أنزل الله"، لا ما أنزل زيد، ولا أفتى عبيد.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

«الصحيفة الصادقة».. إيهام العقول وتمرير الأجندة

ياسر العديرقاوي

06-07-2025

آراء الكتاب

ميراث العباد من النبوة

ياسر العديرقاوي

04-05-2025

آراء الكتاب

مفهوم النشوز في لسان التنزيل بعيداً عن المعاجم

ياسر العديرقاوي

12-05-2025

آراء الكتاب

الرواية النبوية بين الاجتهاد البشري والتصويب الإلهي

ياسر العديرقاوي

19-05-2025

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

ارسل بواسطة