يشكّل موضوع التعارض بين الروايات المنسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام أحد أبرز الإشكالات التي واجهت المحدثين والفقهاء عبر القرون. فمنذ اللحظة التي وُجدت فيها نصوص منسوبة للنبي متناقضة في ظاهرها أو في مضمونها، برزت الحاجة إلى منهجيات لتفسير هذا التناقض أو احتوائه، حفاظاً على هيبة الرواية وإبقائها ضمن دائرة القبول. وهنا ظهرت محاولات واسعة لتبرير التعارض عبر آليات مختلفة، تمثلت في الناسخ والمنسوخ، والرخصة والعزيمة، والتأويل، والترجيح، وغيرها من الأدوات التي ظهرت في كتب أصول الفقه أو اندرجت تحت ما يسمى بعلم "مختلف الحديث" أو "مشكل الحديث".
أولاً: مبدأ الناسخ والمنسوخ
ظهرت كتب تحت مسمى (ناسخ الحديث ومنسوخه) حيث اعتمد المحدثون والفقهاء على فكرة النسخ كحلّ للتعارض بين الروايات، أي أن رواية لاحقة تنسخ أخرى سابقة. وبذلك جرى التخفيف من حدّة التناقض، عبر القول بأن كلا النصين صحيح، لكن أحدهما مؤقت والآخر دائم. غير أن هذا الحلّ لم يكن خالياً من الإشكال؛ إذ فتح الباب أمام تكريس تصور متناقض عن التشريع، بحيث يغدو النص عرضة للإلغاء بدعوى ورود رواية أخرى متأخرة. وأيضاً لا بد من معرفة التواريخ بدقة متناهية، قال الزهري: "أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا الناسخ من المنسوخ، ولا يتأهل لمعرفته إلا الأئمة الكبار الذين لهم علم بالروايات ومقدمها ومؤخرها".
ثانياً: الرخصة والعزيمة
وسيلة أخرى لتبرير التناقض تمثلت في القول إن بعض الأحاديث تمثل "عزيمة" أي الحكم الأصلي الصارم، فيما تمثل أخرى "رخصة" أي تخفيفاً استثنائياً للحالات الخاصة. وبهذا أعطي لكل رواية دور وظيفي مختلف، بحيث لا يُلغى أحدهما بالآخر بل يُدمج ضمن ثنائية تعكس مرونة ظاهرية، لكنها في الواقع محاولة لتسويغ قبول النصين المتعارضين في المنظومة الفقهية.
ثالثاً: التأويل والتفسير المجازي
حين يستعصي الجمع بين روايتين أو أكثر، يلجأ المحدثون إلى التأويل، أي ليّ عنق النص حتى يتوافق مع الآخر. ويظهر ذلك في إضفاء معانٍ مجازية أو دلالات غير موجودة في النص، وهذا المسلك جعل باب التأويل مفتوحاً على مصراعيه، بحيث أصبح بالإمكان توجيه أي نصّ بما يرفع عنه صفة التناقض، ولو على حساب الدلالة الأصلية. وأعوص نص متناقض في الوجود يمكن تبريره وفقاً لهذه القاعدة.
رابعاً: تقديم القول على الفعل أو العكس
أمام وجود نص قولي يختلف عن نص فعلي منسوب إلى النبي، طوّر الفقهاء قاعدة الترجيح بين القول والفعل. فبعضهم يرى القول أصرح وأقوى في التشريع، بينما رأى آخرون أن الفعل أدلّ على التطبيق العملي. وهكذا حُسمت التناقضات بتبني قاعدة انتقائية، دون معيار موضوعي ثابت، مما يعكس الطابع الذاتي البحت لهذه المعالجات.
خامساً: الترجيح بمرجحات متعددة
وفي كثير من الحالات، إذا تعذر الجمع أو التأويل، لجأ المحدثون إلى ما يسمونه "الترجيح". ويُقصد به اختيار إحدى الروايتين واعتبارها أصح وأقوى من الأخرى. وتتنوع المرجحات: فقد تكون بكثرة الرواة، أو بشدة وثاقتهم، أو بقوة حفظهم، أو بعلوّ الإسناد. وأحياناً يستند الترجيح إلى مرجحات خارجية كعمل أهل المدينة أو القياس على قاعدة فقهية عامة. ورغم تنوع هذه المرجحات، فإنها ظلت في النهاية وسائل انتقائية لا تزيل حقيقة التناقض بل تخفف من وطأته.
سادساً: مشكل الحديث ومختلفه
كل هذه الأدوات تبلورت ضمن ما صار يعرف بعلم "مختلف الحديث" أو "مشكل الحديث"، وهو فرع وُجد خصيصاً لمعالجة التعارض بين الروايات، وأول من ألف فيه بشكل مستقل محمد بن إدريس الشافعي في كتابه (اختلاف الحديث). والغرض منه لم يكن نقد الرواية جذرياً أو التحقق من صدقها في ضوء القرآن والعقل، بل كان الهدف الأساس هو إبقاء الرواية داخل دائرة الاعتبار، عبر التوفيق بين المتناقضات وتبريرها، مهما كلّف الأمر من التكلّف والتأويل. وقد عدوا أن الاختلاف بين الروايات هو اختلاف ظاهري وليس اختلافاً حقيقياً، وأن المشكلة في أفهامنا نحن وليس في النص نفسه.
خاتمة
من هنا يظهر أن التعارض في الروايات ليس أمراً نادراً، بل هو ظاهرة واسعة دفعت إلى نشوء علوم خاصة لتبريرها. لكن هذه الحلول –من نسخ وتأويل وترجيح– لم تعالج أصل المشكلة، بل غالباً ما كرّستها. فالقبول المسبق بسلامة الرواية البشرية الظنية جعل النقد يدور في حلقة مغلقة، هدفها الدفاع لا التمحيص. وهذا ما يستدعي إعادة النظر في المنهج كله: فإذا كان النص متعارضاً مع نص آخر صحيح مثله، فإن ذلك يفتح باب الشك في أصل الرواية ومنهج الإسناد برمّته. وبالمقابل، فإن العودة إلى القرآن باعتباره النص القطعي المحفوظ، يمكن أن تمثل مخرجاً من هذه المعضلة، وإطاراً مرجعياً يحد من التضخم الروائي والتناقض الفقهي.