في المخيال الجمعي، وكثيراً ما يُكرَّس في خطابات سطحية، يُختَزل الدين في صورة نمطية باهتة: لائحة صارمة من "الأوامر والنواهي". يصير الدين مجرد سلطة خارجية، قائمة جافة من الواجبات والمحظورات، حيث يقف خلف كل بند فيها شبح العقاب أو وعد الثواب. بهذا التصور، يتحول الدين من بوصلة للنفس إلى سوط للجسم، ومن نظام يوقظ الوعي الداخلي إلى مجرد آلية للضبط الاجتماعي الخارجي.
ولكن، عند العودة إلى ينابيعه الصافية، نكتشف أن الدين في جوهره ليس منظومة أوامر، بل هو منظومة وعي؛ ليس قواعد جامدة، بل هو سيرورة إدراكٍ ومسؤولية وتحرُّر.
الخطاب القرآني: حوار مع العقل لا أمر للعضلة
إن أول ما يلفت الانتباه في الخطاب القرآني هو أنه لا يتوجّه إلى عضلات الإنسان لتنفّذ، بل إلى عقله وقلبه ليدرك. الآيات لا تأتي بصيغة: "أطِع بلا تفكير"، بل تتكرر فيها صيغ تهزّ الكيان وتستفزّ الفكر:
{أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟}، {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ؟}، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟}.
و"التدبر" هنا ليس مجرد قراءة متأنّية، بل هو عملية فكرية وروحية متكاملة: مراجعة، وربط، وتحليل، ومساءلة للنفس والواقع. إنه فعل ينبع من قناعة راسخة، لا من خوف عابر أو تقليد أعمى. عندما يكون الالتزام دافعه الخوف من الرقابة، فإنه يزول بزوالها. أما حين ينبع من وعي داخلي، فإنه يصير جزءاً من هوية الإنسان، حاضراً في السرّ والعلن.
الشرع لا يُلغي العقل بل يستنهضه
يسود فهم مغلوط بأن "التسليم" للنص يعني تعطيل السؤال وإلغاء العقل. لكن القرآن لم يُنزَل ليُخرِس الأسئلة، بل ليُشعلها ويهذّبها. لم يكن النبي ﷺ يُصمِت تساؤلات محاوريه، بل كان يقدّم البيّنات، ويفتح أبواب الحوار، ويطالب بالدليل كمنهجية أساسية:
{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
هذه الآية ليست مجرد تحدٍّ للخصوم، بل هي إعلان عن منهجية التلقي التي يريدها الدين ذاته. فالشرع لا يُفهَم إلا بعقل، ولا يُطبَّق إلا بوعي، ولا تظهر حكمته إلا بتفكير.
هل أراد الله طاعة عمياء أم وعياً مسؤولاً؟
لو أراد الله طاعة آلية صمّاء، لخلقنا كائنات مبرمجة لا تملك خياراً. لكنه كرّمنا بالعقل والإرادة الحرة. لماذا؟ لأن جوهر التدين ليس أن "تفعل"، بل أن "تدرك لماذا تفعل".
هنا يكمن الفرق الجوهري بين من يصلّي لأنها عادة ورثها أو واجب يخشى عقوبته، ومن يصلّي لأنه يرى في الصلاة وعياً واتصالاً وجودياً بالله وبالمجتمع، ومسؤولية تجاه نفسه والعالم. القرآن يربط العبادة بالغاية الأخلاقية والوعي السلوكي: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}. أي إن الصلاة ليست مجرد طقس؛ بل صلاة اجتماعية وتفاعل، وهي أداة لتهذيب الوعي والارتقاء بالسلوك.
الدين كحوار لا كإملاء
حين نعيد الدين إلى مكانه الصحيح كخطاب موجّه إلى "الإنسان الواعي"، فإننا نعيد إليه الحياة، ونعيد للفرد مسؤوليته الأصيلة: مسؤولية الفهم لا الحفظ، مسؤولية التفكير لا النقل، ومسؤولية التفاعل الخلّاق مع النص لا الامتثال الأعمى.
عندها فقط، يتحول الدين من قيد يكبّل "الإنسان الحر"، إلى محرّك داخلي يُنتج "الإنسان الأفضل"، والأنفع للناس.
خاتمة: من دليل السلوك إلى بيان الوعي
إن لحظة التنوير الكبرى هي حين ندرك أن الله لا يريدنا أدواتٍ تنفّذ، بل عقولاً تُدرك، وقلوباً تتحمّل مسؤولية هذا الإدراك. فلا عبادة بلا وعي، ولا فقه بلا تدبّر، ولا إيمان بلا تفكير.