يتراوح الخطاب القرآني في حديثه عن "النكاح" -وهو الاصطلاح القرآني الموافق للزواج- بين معنيين اثنين؛ الأول هو التشديد على ما بين الزوجين من مشاعر السكينة والألفة والمودة، فضلاً عن ربط علاقتهما بإحدى القيم المركزية في النص برمته، وهي قيمة الرحمة، وهو المعنى الذي جاء في الآية: "وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدةً وَرَحْمَةً إِن فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكرُونَ" (الروم/21)، وكيف تكون السكينة والمودة والرحمة إن لم يكن إبرام الزواج نابعاً من الإرادة الحرة والرضا التام للزوجين معاً؟ والثاني محمول على معنى التنظيم باعتبار النكاح/الزواج علاقة تعاقدية بين البشر، ومن المسائل التي اعتنى بها الخطاب في هذا المضمار مسألة زواج المؤمنين بغير المؤمنين، وقد وردت في الآية: "وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتى يُؤْمِنّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَينُ آَيَاتِهِ لِلناسِ لَعَلهُمْ يَتَذَكرُونَ" (البقرة/221)، والدلالة في الآية صريحة في التمييز بين فئتين على أساس الإيمان (وليس الإسلام بمعنى الدعوة التي أتى بها النبي محمد (ص)، فالإيمان أوسع من الإسلام ههنا) والشرك، وفي نهي المؤمنين والمؤمنات عن نكاح المشركات والمشركين، والمقصود بهؤلاء هم من جعلوا لله شريكاً في ربوبيته كما جاء في لسان العرب لابن منظور، وهم في سياق الخطاب القبائل العربية التي لمَّا تؤمن بعد (لذلك اشترط الخطاب حَتى يُؤْمِنّ/حَتى يُؤْمِنُوا).
ومن الواضح أن الخطاب سكت عن مسألة زواج المسلمة بغير المسلم من أهل الكتاب، وإن كان قد أجاز ارتباط المسلم بالكتابية في الآية: "الْيَوْمَ أُحِل لَكُمُ الطيبَاتُ وَطَعَامُ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِل لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِل لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُن أُجُورَهُن مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (المائدة/5).
إن المطَّلع على المدونة التفسيرية والفقهية يقف عند المسافة التي تفصل مقالة القدامى والخطاب القرآني؛ ويمكن أن نرصد هذه المسافة في القول المأثور عن مالك (ت 179هـ) "أشبه شيء بالبيوع النكاح"، فهو بليغ الدلالة على الرحلة التي قطعها معنى النكاح من القرآن إلى المقالة الفقهية، وينبئ عن موقف ينزع إلى "تسليع المرأة"؛ أي اعتبارها سلعةً ومالاً، للرجل أن يحوزه وينتفع به، أوَليس النكاح، كما قال صاحب (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع) الكاساني الحنفي (ت 587هـ): "معاوضة البضع بالمال". ويتأكد هذا المعنى من خلال تفسير الرازي (ت 606هـ) للآية: "وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً.."؛ إذ يقول: "قوله (خلق لكم) دليل على أن النساء خُلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع".
أما عن زواج المسلمة من المشرك ومن الكتابي فممنوع، وأما الرجل المسلم فله أن يتزوج كتابية، وإن رأى بعضهم كراهة ذلك كالإمام مالك. ويقول القرطبي (ت 671هـ) في تفسير الآية 221 من سورة البقرة: "وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لِما في ذلك من الغضاضة على الإسلام". ولعل ما يستوقفنا، في هذا القول، هو استبدال عبارة "نكاح" في القرآن بعبارة "وطء" في التفسير، وهو ما يحمل في طياته دلالة بليغة على هذا الموقف الذي يمنع المسلمة من الزواج بالكافر المشرك؛ فهو تعبير عن نظرة ثقافية للوطء تجعله يختزل العلاقة الزوجية في بُعدها المتعلق بالممارسة الجنسية، والرجل في هذه العلاقة هو السيد باعتباره الفاعل والمرأة مفعولاً.
وقد اشترك فقهاء المذاهب الإسلامية في القول بأن منع زواج المسلمة بغير المسلمين لا يقتصر على المشركين فقط، بل يشمل الكتابيين يهوداً ونصارى أيضاً، رغم غياب نص قرآني واضح وصريح في ذلك. ويبرر الكاساني ذلك بقوله: "وَلِأَن فِي إنْكَاحِ الْمُؤْمِنَةِ الْكَافِرَ خَوْفَ وُقُوعِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الْكُفْرِ؛ لِأَن الزوْجَ يَدْعُوهَا إلَى دِينِهِ، وَالنسَاءُ فِي الْعَادَاتِ يَتْبَعْنَ الرجَالَ (..) وَالنص وَإِنْ وَرَدَ فِي الْمُشْرِكِينَ لَكِن الْعِلةَ، وَهِيَ الدعَاءُ إلَى النارِ يَعُم الْكَفَرَةَ، أَجْمَعَ فَيَتَعَممُ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلةِ فَلَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْمُسْلِمَةِ الْكِتَابِي كَمَا لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهَا الْوَثَنِي وَالْمَجُوسِي؛ لِأَن الشرْعَ قَطَعَ وَلَايَةَ الْكَافِرِينَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ". ويعكس هذا القول الخلفية التي تختزل معاني التفوق والسيادة، فلا مجال إذن أن يكون الرجل الكافر فاعلاً وسيداً ومتفوقاً على المرأة المسلمة، وهو ما من شأنه أن يخل ببنية المجتمع وتوازن نظامه وتوزيع السلطة والسيادة داخله.
وذهب بعض المحدثين على غرار الطاهر بن عاشور إلى أن أمر تزويج المسلمة من الكتابي لا نص عليه؛ إذ يقول: "والمشرك في لسان الشرع من يدين بتعدد آلهة مع الله سبحانه، والمراد به في مواضعه من القرآن مشركو العرب الذين عبدوا آلهة أخرى مع الله تعالى، ويقابلهم في تقسيم الكفار أهل الكتاب، وهم الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه ولكنهم أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ونص هذه الآية تحريم تزوج المسلم المرأة المشركة، وتحريم تزويج المسلمة الرجل المشرك فهي صريحة في ذلك، وأما تزوج المسلم المرأة الكتابية وتزويج المسلمة الرجل الكتابي فالآية ساكتة عنه". ويفتح التأويل الذي قدمه ابن عاشور الباب لمراجعة الحكم الذي يمنع المرأة المسلمة من أن تتزوج من غير المسلم إذا ما ارتضت ذلك ووجدت فيه الخيار الأنسب لتحقق في ارتباطها به معاني السكينة والمودة والرحمة، كما جاء في الخطاب القرآني.