حين نريد أن نفهم حقيقة صلاة الجمعة، لا يكفينا أن ننظر في ظاهر الأمر، بل ينبغي أن نعود إلى سياق التنزيل، إلى اللحظة التي نزلت فيها سورة الجمعة، وإلى طبيعة الزمن والحدث والمجتمع الذي كانت فيه. والتمهيد لفهم هذا التشريع لا يبدأ من لفظ "الجمعة"، بل من طرح سؤال بسيط في ظاهره، عميق في جوهره: عندما نزلت سورة الجمعة، هل كان في الناس يوم يُسمّى يوم الجمعة؟ وهل أطلق القرآن هذا الاسم ابتداءً؟ أم أنه وافق اسماً كان شائعاً قبله؟
الجواب أن يوم الجمعة كان موجوداً قبل نزول السورة، وكان يُعرف عندهم بهذا الاسم، وكان يوم اجتماع، لا للعبادة، بل للتجارة. كانوا يجتمعون في هذا اليوم من كل أسبوع في السوق، ولهذا سُمّي عندهم بيوم "الجمعة"، لا لأنه يوم عبادة مخصوصة، بل لأنه يوم بيع وشراء وتبادل منافع. ثم جاءت السورة، لا لتؤسس اسماً جديداً لليوم، بل لتقرّ هذا الاسم وتحمله نحو معنى آخر. لقد استخدم القرآن الاسم المتداول، لكن أعاد تشكيل وعي الناس به، وربطه بمقصد أعلى.
وهنا تكمن الدقة الفائقة في قوله تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذِكر الله وذَرُوا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون﴾.
فالآية لم تقل "إذا نودي لصلاة الجمعة"، بل قالت: "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة"، وهذا فارق بياني بليغ. فالآية لا تتحدث عن صلاة مخصوصة اسمها "صلاة الجمعة"، بل عن نداء لصلاة معينة، وقع وقتها في يوم الجمعة. وهذا النمط من التعبير ينزع القداسة عن اليوم في ذاته، ويربط التشريع بالسياق الزمني والاجتماعي للناس آنذاك؛ إذ كانوا يجتمعون للبيع، فجاءهم النداء للصلاة. كأنّ القرآن يقول: هذه الصلاة التي نُودي لها من يوم الجمعة هي الأَوْلى من البيع، وهي الأرجح في الميزان لشهود تقرير تنزل الوحي لمن يسكنون في المناطق البعيدة.
ولذلك جاءت الآية التالية تقول: ﴿فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون﴾، وكأن الصلاة لم تأتِ لتقطع الرزق أو تحظر التجارة، بل لتعلو عليها قدراً وتذكيراً وتوجيهاً، ثم يعود الناس بعدها إلى سعيهم. فليس الغرض هو إيقاف السوق، بل هو تقديم الأولويات. ولذلك لم يمنعهم الله من الرجوع إلى البيع بعد انقضاء الصلاة، بل أمرهم أن يفعلوا ذلك وهم ذاكرون، لا غافلون.
ويُبيّن الله طبيعة هذا النداء وموقف الناس منه في قوله: ﴿وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين﴾. فالصلاة التي نودي لها لم تكن في المسجد حيث الناس يتهيؤون لعبادة متوقعة، بل كانت وسط السوق، حيث التجارة جاذبة واللهو مغرٍ. فجاءت الصلاة لتختبر ميزان الإنسان، أيقدّم النداء الإلهي أم ينساق خلف نداء السوق؟ و"تركوك قائماً" ليست عتاباً للنبي وحده، بل كشفٌ عن حال أمة لم تتدرّب بعد على تقديم الذِّكر على العيش، والوحي على السوق.
ولو تأمّلنا عمق العلاقة بين الصلاة والوحي في زمن النبوة، لوجدنا أن الصلوات لم تكن مجرد حركات أو طقوس، بل كانت اجتماعاً يُعلن فيه النبي ﷺ للناس ما جاء من عند الله، ولذلك كان حضور الصلاة في ذاك الزمن حضوراً لتقارير السماء، أي لحظة اتصال بين الأرض والوحي، ومن يفوّت تلك اللحظة كأنما فوّت لحظةً فارقة من لحظات التنزيل. هذا المعنى يجعل السعي إلى ذكر الله في ذلك الوقت أولى من كل منفعة آنية. إذ ليس المقصود مجرّد الصلاة، بل اللقاء مع تقريرٍ إلهيٍّ جديدٍ، مع لحظة تنزُّل، مع نقطة في سلسلة بناء الرسالة.
ولو كانت تلك الصلاة صلاةً مخصوصة ليوم الجمعة، لتكرر في القرآن ذكرها بالاسم، ولوجدنا في الروايات الإسلامية خطب الجمعة محفوظة ومتواترة لأنها مشهودة بجمع من الناس. ولكن الغريب –والمهم– أننا لا نملك سجلاً دقيقاً لخطب النبي في يوم الجمعة، وكأنّ حضور تلك الخطب كان متعلقاً بالموقف، لا بالشكل، وبالرسالة. ولو كانت خطبة الجمعة نصاً ثابتاً، لأوردتها كتب الحديث والسير، لكن ما نملكه هو وصف للحالة، لا نصوص تُتلى.
هذا كلّه يؤكد أن سورة الجمعة لم تأتِ لتُقدّس يوماً بعينه، بل جاءت لتُعيد توجيه المجتمع في لحظة مفصلية، حين كان الناس يفضلون البيع على الذكر. فجعل الله الذكر في ذلك الوقت خيراً من التجارة، لا لأن الوقت في ذاته مقدّس، بل لأن الموقف يقتضي المفاضلة. والقرآن دائماً يربّي الأمة على فقه الأولويات، لا على توقير الأزمنة بذاتها.
فالجمعة ليست طقساً جامداً، بل لحظة اتصال أعلى، حين تتعارض نداءات الأرض مع نداء السماء.