فقهاء في وضعية صعبة

04-09-2025

يتواجد معظم فقهاء المسلمين في وضعية صعبة، تتمثل في العجز عن تجاوز منظومة الفقه التراثي والخروج من النزعة الماضوية التي توقعهم في التقليد والاجترار لقواعد فكرية تم إرساؤها منذ 1200 سنة، مما جعلهم في تصادم دائم مع الواقع، ومع نموذج الدولة الحديثة التي لا يمكن للفقه التراثي أن يستجيب لحاجاتها ولقضاياها، بسبب كون ذلك الفقه قد أنتج استجابة لحاجات دولة الخلافة قبل قرون طويلة، وفي سياق تاريخي مختلف كلياً عن السياق الراهن.

ويمكن رصد العوائق الفكرية التي تمنع العقل الفقهي من التجديد والاجتهاد في العناصر التالية:

1) عدم الوعي بضرورة التمييز بين الفقه والإنتاجات الفكرية البشرية من جهة، والنص المؤسس الأصلي من جهة أخرى، والذي له سياق خاص لا يمكن إعادة إنتاجه أو تجاهله عند قراءة النص وتفسيره وتأويله. حيث في غياب هذا التمييز يعتمد الفقهاء ما تم إحداثه من آراء فقهية ومذاهب ومفاهيم وقواعد على أنها جزء لا يتجزأ من الدين، بينما هي مجرد اجتهادات بشرية في فهم النصوص الدينية على ضوء واقع أولئك الفقهاء القدامى، حيث لا توجد قراءة خارج السياق التاريخي، وما يحدث لفقهاء اليوم أنهم يأخذون الآراء الفقهية كما لو أنها الفهم الوحيد والصحيح للدين، دون الأخذ بعين الاعتبار تاريخية تلك الأفكار والقواعد والفتاوى. وسبب وقوعهم في هذا الخطأ اعتقادهم الثابت بأن القدماء أكثر فهماً للدين من اللاحقين، حيث في ظنهم أننا كلما عدنا إلى الوراء واقتربنا من العصر الأول كان فهمنا للدين أسلم وأكثر صحة، وهذا اعتقاد ظاهر البطلان، لأنه يلغي الواقع والتاريخ والعلم وإبداع العقل البشري.

ومن ثَم لا يمكن للفقه الإسلامي أن يخرج من وصاية الموتى دون اعتبار التراث الفقهي إنتاجاً بشرياً نسبياً، مرتبطاً بسياق زماني ومكاني محدّد، مما يجعله غير ملزم بشكل مطلق للأجيال اللاحقة.

2) ضعف التجديد المنهجي والفكري الذي يعيد النظر في قواعد ومناهج اعتمدها الفقهاء القدامى على أنها من "العلم"، بينما تبين اليوم بعد فحصها بأنها مجرد قواعد ظنية وليست يقينية ولا تؤدي إلى معارف دقيقة، ومثال ذلك ما سمي بـ "علم الحديث" الذي نعرف اليوم بأنه بني على منهج ظني اعتمد "إسناد الخبر" عبر الرواية الشفوية دون النظر إلى المتون ومضامينها التي هي في كثير منها منافية للعقل والواقع والعلم، بل وحتى الأخلاق.

وسبب هذا الضعف والعجز عن تجاوز أخطاء القدماء عدم القدرة على تعويض منطق التقليد والحفظ والاستظهار بمنطق النقد الصارم والموضوعي الذي يعتمد مناهج العلوم وقيم العصر الذي نحن فيه. حيث ما زال فقهاء اليوم عاجزين عن توظيف أدوات العلوم الإنسانية الحديثة كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس والعلوم القانونية والاقتصادية والسياسية، في فهم النصوص الدينية سواء في سياقها القديم أو على ضوء الواقع المعاصر الذي لا يمكن تجاهله بقضاياه وإشكالياته الجديدة غير المسبوقة في التاريخ كله.

3) عدم القدرة على الانتقال من الفقه الجزئي الذي يتعلق ببعض التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية، والذي بُني على تصور يعتبر الدين "نظاماً شاملاً" للحياة وللدولة والمجتمع، إلى فقه مقاصدي إنساني يعتمد على أولوية القيم الكبرى مثل العدل والحرية والكرامة والمصلحة العامة، وهي خطوة جبارة تقوم على نظرة "إنسية" للدين، تعطى فيها الأولوية للكرامة الإنسانية، وتجعل الدين وسيلة من بين وسائل أخرى في خدمة الإنسان المواطن وليس العكس، أي جعل الدين هو الغاية على حساب الإنسان.

4) غير أن هذه العوائق الثلاثة لا يمكن تجاوزها بدون إصلاح تربوي وثقافي، يعمل على تطوير المناهج التعليمية الدينية بحيث تُعلّم التفكير النقدي لا التلقين والاتباع والتقليد، وتركز على تاريخانية الفكر الإسلامي عوض تقديمه كحقائق دينية ثابتة، كما تركز على "تاريخ الإسلام" لتعرف الأجيال المتعاقبة الفرق بين "إسلام النص" و"إسلام التاريخ" الذي هو تجارب بشرية نسبية.

5) كما أنه من الضروري على المستوى التشريعي والمؤسساتي، وفي مجال الأحوال الشخصية تحديداً، العمل على سن قوانين وضعية حديثة "مستلهمة" من القيم والمبادئ الإسلامية العامة، عوض إعادة إنتاج أحكام فقهية قديمة لم تعد ملائمة للسياق المجتمعي الحالي، بل صارت مصدر ضرر بالغ وعرقلة لتطور الدولة والمجتمع.

وفي هذا السياق من اللازم إشراك جميع الفئات الفاعلة في الدولة في موضوع الاجتهاد الديني وعدم الاكتفاء بالفقهاء وحدهم، مما يستلزم الاستعانة بآراء الحقوقيين والخبراء في العلوم الاجتماعية والإنسانية.

كما يتحتم الفصل النظري والعملي بين الدين كمنظومة قيم ومبادئ عامة، والسياسة اليومية وإدارة الشأن العام، وذلك لتجنب توظيف الفقه التراثي بأجوبته الجاهزة أداة لإيقاف تطور الواقع، أو لالتماس شرعية سياسية لا يمكن أن تكون إلا شرعية ديمقراطية مدنية.

ومن المعلوم أن كل المستويات المشار إليها مترابطة ترابطاً جدلياً، حيث لا يمكن مباشرة إصلاح الفكر الديني بدون تغيير الوعي، كما لا يكفي نقد التراث الفقهي بدون سن قوانين وإرساء مؤسسات حديثة.

ومن جانب آخر لا بد من ترك باب الحوار مفتوحاً بين مختلف التيارات الفكرية المتفاعلة في المجتمع، بكل مشاربها وتوجهاتها الأيديولوجية، حيث يساهم الحوار في تقريب الواقع إلى الأذهان، وفهم التناقضات والأخطاء وأوجه التقصير.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

من "التجديد" إلى "التحديث"

أ. أحمد عصيد

25-12-2024

آراء الكتاب

مدونة الأسرة المغربية، نحو مدنية النص

أ. أحمد عصيد

07-01-2025

آراء الكتاب

الفكر الديني ومفهوم الطفولة

أ. أحمد عصيد

26-01-2025

آراء الكتاب

المثقف والفقيه

أ. أحمد عصيد

10-12-2024

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

ارسل بواسطة