لا يمكن تناول مسألة الطلاق من منظور واحد، لأنها تتداخل مع حياة الإنسان من الناحية القانونية الإجرائية، والنفسية، والاجتماعية. فالطلاق في حقيقته ليس مجرد إجراء قانوني بارد، بل هو حدث يهزّ الكيان الشعوري والعائلي والمجتمعي، ولذلك فإن أي فهم سطحي له يغفل عمق ما وصفه الله بـ"الميثاق الغليظ"، ذلك الرابط الذي لا يمكن أن يُفكّ بكلمة تُقال في لحظة غضب، بل يخضع لنظام دقيق يراعي طبائع البشر جميعاً، لا النخب وحدهم.
البعد القانوني: الميثاق الغليظ لا يُفكّ بلفظ عابر
في "قانون الأحوال الشخصية" يُنظر إلى الزواج باعتباره عقداً قابلاً للفسخ بشروط، لكن القرآن لا يكتفي بوصفه عقداً، بل يسميه: ميثاقاً غليظاً. وهذا التعبير يحمل دلالتين: الأولى في القداسة، والثانية في الصعوبة والتداخل بين الجسد والنفس والنية. والسؤال هنا: هل يمكن أن يُفكّ هذا الميثاق لمجرد لفظٍ يُقال في ساعة طيش: "أنتِ طالق"؟ أليس من العجيب أن ينهار هذا البناء، الذي أسّسه الله على المودّة والرحمة، بكلمة لا تتجاوز أربعة أحرف؟
القرآن يجيبنا بأنه لا يعامل مع كلمة "الطلاق" على أنها فعل لحظي، بل على أنها حالة إجرائية تبدأ بإعلان الانفصال وتنتهي بنهاية فترة العدة، وأي عملية رد للعلاقة أثناء فترة العدة تلغي إعلان اللفظ وتعتبر مشكلة عادية وتم حلها ولا تحسب مرة.
الطلاق في ذاته ليس مأساة أو مشكلة، بل هو حلّ ومخرج إلهي من مأزق بشري، حين تستحيل العِشرة، وتُستنزف طاقة المودّة.
وبالتالي المشكلة ليست في الطلاق، بل في الطريقة التي يُفهم بها ويُمارس بها.
المرأة المطلقة، على سبيل المثال، تُواجه في مجتمعاتنا نظرات قاسية تُحمّلها وزر الفشل، وتُقصيها اجتماعياً، في حين أن الطلاق يمكن أن يكون بداية شفاء، لا نهاية حياة.
بل إن كثيراً من المنظمات التي تُعنى بهذا الملف للمعالجة ومحاربة الطلاق تنطلق من شعار "رفع الوعي"، بينما الوعي لا يُغيّر شيئاً إذا لم يُفهم "طبيعة العقد" الذي يجمع بين الزوجين. فالعقد هنا ليس ورقة موقّعة، بل رابط تكويني، حاكمه القرآن، لا الأعراف وحدها. ولذلك وضعه الله تعالى بطريقة مرنة، تتناسب مع اختلافات البشر، لا مع استقامة النخبة فقط.
الطلاق مرتان: هل المقصود عدد أم حالة؟
قال تعالى: ﴿الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان﴾.
إن كلمة "مرّتان" لا تعني عدد كلمتين أو لفظتين، بل تشير إلى "حالتين" أو "دورتين" يمر بهما رابط الزوجية عبر إجراءات كبيرة ومهمة، ولذلك لم يقل النص: "الطلاق طلقتان"، ولا "الطلاق اثنتان"، بل قال "مرّتان"، لأن "المرّة" في لسان القرآن لا تشير إلى عدد، بل إلى تجربة شعورية وزمنية مكتملة الإجراء.
قال تعالى: ﴿إن تستغفر لهم سبعين مرّة﴾.
فهل يُعقل أن يكون المقصود هنا هو تكرار لفظ الاستغفار سبعين كلمة أو لفظة؟ أم أن "المرّة" هي حالة تفرّغ قلبي ونفسي كامل للاستغفار بغض النظر عن عدد الألفاظ في الحالة الواحدة؟
الطلاق، بحسب هذا الفهم، ليس إعلاناً لفظياً فقط، بل حالة تبدأ بلفظٍ تعبيريّ عن قرار الانفصال (كقول الرجل: "أنتِ طالق")، وتمتد لتشمل زمن العدة، الذي يُعدُّ مكوّناً من مكوّنات "المرّة".
فإذا تمّت العدة دون عودة العلاقة، سُجّلت هذه الحالة مرة أولى مكتملة من المرتين. أما إذا عاد الرجل إلى زوجته خلال العدة، فإن هذه "التطليقة" لا تُحتسب، لأنها لم تبلغ تمامها لتصبح مرة.
وهنا يأتي التدرّج القرآني الجميل في استخدام المفردات:
الرد: هو العودة داخل زمن العدة، أي حين لا تزال المرأة في نطاق سلطته الشرعية.
الإمساك: هو قرار البقاء عند نهاية العدة، في اللحظة الفاصلة بين الانتهاء والافتراق.
الإرجاع: هو إعادة الرباط بعد خروج المرأة من عصمة زوجها نهائياً وتدخل في تجربة أخرى فتنكح زوجاً آخر ومن ثم يطلقها نهائياً، ومن ثم ترجع إلى الأول، هذه فقط التي تسمى بالرجعة.
وحتى لا نظن بأن العودة أثناء العدة مدعاة للفوضى والتلاعب إن كانت اللفظة لا تحسب، نقول ببساطة إن قرار قبول العودة للعلاقة أثناء العدة من حق المرأة وليس من حق الرجل المعلن للطلاق إلا في حالة ظهور الحمل فيرجح حق الرجل على حقها:
{وَٱلۡمُطَلَّقَـٰتُ یَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـٰثَةَ قُرُوۤءࣲۚ وَلَا یَحِلُّ لَهُنَّ أَن یَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِیۤ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ یُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوۤا۟ إِصۡلَـٰحࣰاۚ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِی عَلَیۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَیۡهِنَّ دَرَجَةࣱۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمٌ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: ٢٢٨].
كلمة "أحقّ" هنا تدل على وجود "حقّين"، أحدهما للمرأة، والآخر للرجل، لكن يُرجّح حقّ الرجل مراعاةً للحمل والذرية فقط على أن يكون الحق في الحالات الأخرى للمرأة.
الخلاصة:
الطلاق ليس قنبلة عاطفية تنفجر بكلمة، بل حالة وجودية تمرّ عبر مسارٍ زمني وروحي ونفسي متكامل. "الطلاق مرّتان" تعني أن للانفصال دورتين كاملتين، لا لفظين متفرقين. ولذلك فإن التفريط في هذا الفهم القرآني يُفقد المجتمع توازنه، ويحوّل الحل إلى مأساة. إن إدراكنا لهذه الرؤية لا يغيّر فقط من طريقة تعاملنا مع الطلاق، بل يُعيد تشكيل وعي المجتمع بأكمله تجاه مفهوم الأسرة، والعلاقة، والرحمة.