تُعدّ مسألة حجية روايات أحاديث الآحاد من القضايا التي أثارت جدلاً كبيراً في الفكر الإسلامي قديماً وحديثاً، وخاصة في الاحتجاج في مسائل العقائد أو إثبات النص القرآني. فالرأي القائل بعدم حجية هذه الروايات -سواء في العقائد أو غيرها- لا يقتصر على موقف سلبي من التراث الحديثي، بل هو بذلك يقوم على إعادة المركزية للقرآن الكريم بوصفه النص القطعي الثبوت والوحيد الملزم تشريعياً، والروايات ينبغي أن تكون تابعة له لا أن يكون تابعاً لها.
ومن ثمار ذلك:
أولاً: إعادة التدبر في القرآن الكريم
إن إلغاء سلطة الرواية الآحادية الظنية على النص القرآني يفتح المجال لإعادة الاعتبار للنص القرآني باعتباره المرجعية العليا؛ فالقرآن بخلاف الروايات تَتابع نقله في الأمة جيلاً بعد جيل، وهو قطعي في ثبوته، محفوظ بحفظ الله تعالى له. هذا التحول يعيد تشكيل الوعي الديني من خلال تدبر مباشر للقرآن، بعيداً عن هيمنة النصوص الآحادية الظنية التي طالما صُرفت إليها الجهود.
قال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) [ص: ٢٩].
ثانياً: إحياء الأحكام القرآنية المعطلة
لقد أدت الروايات الآحادية إلى تعطيل أو تقييد جملة من الأحكام القرآنية، مثل آيات المساواة بين الناس، ومبادئ حرية الاعتقاد، وآيات السلم والصفح. فاعتماد القول بعدم حجية الرواية يعيد إحياء تلك الأحكام بوصفها النصوص الأصلية والقطعية، ويحررها من قيود النسخ أو التخصيص أو التأويلات التي نشأت بفعل المرويات.
قال تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون) [الأعراف: ٣].
ثالثاً: تقليص الخلافات المذهبية
أحد أبرز أسباب الانقسام بين الفرق الإسلامية هو الاختلاف في قبول الروايات وردّها، إذ أصبحت المصنفات الحديثية أساساً لهويات مذهبية متباينة. وإلغاء حجية الرواية يُسقط هذا الأساس، ليبقى القرآن هو المرجعية الجامعة بين المسلمين. وبهذا تقلّ الفجوات العقدية والفقهية، ويُعاد بناء الوحدة على أساس نص قطعي مشترك.
قال تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) [آل عمران: ١٠٥].
رابعاً: تجاوز المفاهيم والأفكار المعيقة للفهم القرآني
لقد أُنتجت، عبر المرويات، مفاهيم مثل الناسخ والمنسوخ في الشريعة الواحدة، وحدّ الردة لمن غير اعتقاده، ودونية المرأة. وهذه المفاهيم أسهمت في تكبيل النص القرآني، وإدخال عناصر دخيلة على بنيته ومقاصده. وعليه، فإن إلغاء حجية الرواية يؤدي تلقائياً إلى تجاوز هذه التصورات، وإعادة فتح المجال أمام قراءة قرآنية نقية ومتسقة مع روحه الإنسانية التي أرادها الله تعالى.
قال تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً) [الإسراء: ٩].
خامساً: تعزيز البعد العالمي لرسالة الإسلام
القرآن يقدم خطاباً عالمياً يتوجه إلى "الناس" دون تقييد جغرافي أو زمني. غير أن الروايات كثيراً ما أضفت قيوداً مرتبطة بظروف سياسية أو اجتماعية محددة في القرون الأولى. وبالعودة إلى المرجعية القرآنية، يستعيد الإسلام عالميته ورسالته الكونية، متجاوزاً تلك التقييدات الزمكانية التي فرضتها اجتهادات الفقهاء والمفسرين.
قال تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين) [ص: ٨٧].
وهذه الأمور الخمسة ذكرناها على سبيل المثال، فأثر الروايات الآحادية الظنية داخل في حياة المسلم كلها سلوكياً واجتماعياً وعقائدياً واقتصادياً.. إلخ.
إن القول بعدم حجية روايات الآحاد لا يُقصد به إلغاء التراث الحديثي أو إنكار قيمته التاريخية، وإنما إعادة وضعه في سياقه بوصفه نتاجاً بشرياً لا نصاً ملزماً. وبهذا تنتقل الأمة من الاعتماد على روايات آحادية ظنية مختلف في ثبوتها ومختلف في ألفاظها ودلالاتها إلى الاحتكام للنص القطعي المحفوظ، ومن التنازع المذهبي الفئوي إلى وحدة المرجعية، ومن ضيق الفهم التراثي إلى رحابة الرسالة القرآنية العالمية. وهو تحول منهجي وفكري يمثّل خطوة مركزية في مشروع تجديد الخطاب الديني.