يُعد هشام جعيط أحد أبرز المفكرين والمؤرخين التونسيين العرب في العصر الحديث، تميز بمشروعه الفكري الذي يجمع بين عمق المؤرخ المدقق وجرأة المفكر المنفتح على الفلسفة والعلوم الإنسانية، مع حفرٍ معمق في التراث الإسلامي. كتاب "أزمة الثقافة الإسلامية"، الصادر عن دار الطليعة في بيروت، عام 2000، هو جزء من سلسلة مؤلفاته التي تحاول تشخيص العلل العميقة التي تعاني منها الحضارة العربية الإسلامية في راهنها، ومحاولة البحث عن سبل للخروج منها.
يُعرف جعيّط بسيرته الأكاديمية المتينة وانشغاله بتاريخ الإسلام وبتحليل أسباب تأخّر المجتمعات العربية والإسلامية في مواجهة تحوّلات العصر. لا يقدم جعيط إجابات جاهزة أو حلولاً سحرية، بل يشق طريقه عبر تحليل نقدي جريء للبنى الثقافية والسياسية والتاريخية، متميزاً بأسلوب أكاديمي رصين، ولغة واضحة في عرض الأفكار.
ضمن أهم ما يتناوله من أفكار، تأتي فكرتان مركزيتان يتناولهما الكتاب، هما: "أزمة الثقافة العربية الإسلامية"، و"الثقافة والسياسة في العالم العربي".
أزمة الثقافة
يبدأ جعيّط بإثارة السؤال الكبير: ما المقصود بالأزمة (؟). عنده، الأزمة ليست مجرد تأخّر تقني أو نقص في الثروات المادية؛ بل هي تراجع في قدرة العقل الثقافي والذاتي على إنتاج معنى معرفي وحضاري متجدد. وهو، هنا، يعرّف الثقافة بمستواها الفكري والروحي والعلمي والفني، لا بالثقافة الشعبية البسيطة. ومن هذا المنطلق يرى أن فقدان إنتاج الفكر النقدي والمشروع الحداثي الأصلي هو ما يفرّق بين مجتمعاتٍ مالكة لأدوات الحياة من جهة، وبين حضارة قادرة على الحضور الإبداعي الكامل من جهة أخرى.
عبر هذه الفكرة، "أزمة الثقافة العربية الإسلامية"، يضع جعيط اللبنة الأساسية لمشروعه التشخيصي، محاولاً تحديد مكامن الداء في الجسد الثقافي العربي الإسلامي المعاصر. لا يتحدث عن أزمة عابرة، ولكن عن أزمة بنيوية متجذرة تمتد جذورها إلى قرون مضت.
فمن جانب، يرى جعيط أن جوهر الأزمة يتمثل في "العلاقة المشوهة مع التراث". فالمثقف العربي إما واقع في أسْر هذا التراث، ينظر إليه بقدسية تمنعه من نقده أو تجاوزه، وإما أنه يقف منه موقفاً عدائياً يرفضه جملة وتفصيلاً تحت شعار القطيعة مع الماضي. ويؤكد أن كلا الموقفين –التقديس أو القطيعة– يعيقان إمكانية "قراءة" حقيقية للتراث. القراءة الحقيقية، من منظوره، هي تفكيك لنصوصه وإعادة بنائها بمناهج عقلانية نقدية، لفهم كيف تشكلت عقليتنا عبر التاريخ، واستخراج ما هو حيوي وإنساني منها، يمكن أن يسهم في بناء حداثة خاصة بنا، لا تعتبر التراث عدواً ولا معبوداً.
ومن جانب آخر، يشير جعيط إلى "تراجع دور العقل النقدي" لصالح النقل والتقليد والخطاب الشعبوي أو الأيديولوجي المغلق. لقد أدت قرون من الجمود الفكري إلى إضعاف القدرة على التساؤل والشك المنهجي والإبداع، وهي أسس أي نهضة. الثقافة السائدة أصبحت ثقافة استهلاكية أو تبريرية، تكرر نفسها دون إضافة، وتخاف من السؤال الجذري. هذه الأزمة العقلية تجلت بشكل صارخ في عجز الفكر العربي عن إنتاج إجابات مقنعة، ومبتكرة، للتحديات الكبرى التي فرضها الغرب الحديث، منذ الحملة الفرنسية على مصر وحتى يومنا هذا.
ومن جانب أخير، يناقش جعيط "إشكالية التأخر التاريخي" للحضارة العربية الإسلامية، مقارنة بالغرب. وهو لا يتوقف عند ملامح الظاهرة (التخلف التقني والعسكري)، بل يحفر إلى أسبابها الثقافية: كيف فشلنا في استيعاب "الحداثة"، ليس كمنتجات مادية (تكنولوجيا) فقط، بل كـ"روح"، كقيم للمواطنة، والعقلانية، والديمقراطية، والفردانية الإيجابية (؟). ويحذر من أن تبني قشور الحداثة دون جوهرها، هو واحد من مظاهر الأزمة ذاتها. فالحداثة، في نظره، تتطلب قطيعة إبستمولوجية (معرفية)، مع أنماط التفكير ما قبل الحديثة، وهو أمر لم يتحقق بعد بشكل واسع.
وهكذا.. يرتّب جعيّط أسباب الأزمة على مستويات متداخلة: عوامل تاريخية (انهيار الرقع الحضارية القديمة وصدام الحداثة مع العالم الإسلامي)، سياسات الدولة الحديثة (الاعتماد على نموذج الدولة القُطرية وما أحكمته من تبعية مؤسسية)، ثقافة التلقين والرجوع إلى النصّ دون مؤسسات نقديّة؛ بالإضافة إلى عوامل خارجية مرتبطة بالهيمنة الاقتصادية والتقنية الغربية. ولكنه لا يكتفي بسجلِّ الأسباب؛ بل يحاول استجلاء آليات خلاصة تقول إنّ الأزمة إنما هي فشل في بناء مشروع حضاري يعتمد على توليف المعرفة المحلية مع معارف العصر دون تقليد أعمى، وعلى تأسيس مؤسسات ثقافية حقيقية قادرة على إنتاج العلم والفكر والفن.
الثقافة والسياسة
ثم ينتقل جعيط إلى ربط التشخيص الثقافي بالممارسة السياسية، مؤكداً على أن السياسة هي مرآة الثقافة السائدة، وأن أزمة الحكم في العالم العربي هي تجسيد مباشر لأزمة الثقافة.
فمن جهة، يقدم جعيط تحليلاً قاسياً للمنظومة السياسية العربية، ويرى أن "الاستبداد السياسي" ليس مجرد انحراف سياسي، وإنما هو نتاج لبنية ثقافية واجتماعية. الثقافة السياسية السائدة، التي تأثرت بتراث الاستبداد الشرقي -كما يسميه- والتراث السلطاني في التاريخ الإسلامي، لم تُنتج مفاهيم المواطنة المتساوية. ويشير إلى أن السياسة أصبحت مجالاً للصراع على الغنيمة (المكتسبات)، وليس للتداول على إدارة الشأن العام. وفي رأيه، هذا يجعل الديمقراطية مجرد شعار أو عملية شكلية (صناديق اقتراع)، دون أن تتجذر كثقافة وممارسة يومية.
ومن جهة أخرى، يتعمق جعيط في واحدة من أعقد الإشكاليات، وهي علاقة الديني بالسياسي. وهو يرفض المقاربتين السائدتين: مقاربة العلمانية المتطرفة التي تريد إقصاء الدين تماماً من الفضاء العام، وهو أمر غير واقعي في مجتمع متدين بطبعه؛ ومقاربة الإسلام السياسي التي تريد أسلمة الدولة والمجتمع قسراً، وفق نموذج تاريخي مُتَخيَّل (دولة الخلافة). ويدعو إلى ضرورة تطوير "عقد اجتماعي جديد"، يفصل بين الدين كمرجعية أخلاقية وروحية وبين السياسة كمجال دنيوي، عقد اجتماعي يقوم على إرادة الناس وليس على التفويض الإلهي المزعوم.
من جهة أخيرة، يناقش جعيط إشكالية "بناء الدولة الوطنية" في العالم العربي. هذه الدول، التي ورثت حدوداً استعمارية، فشلت في كثير من الأحيان في خلق ولاء حقيقي، يتجاوز ولاءات الطائفة والعشيرة والعائلة. إذ لم تتحول الدولة إلى دولة مؤسسات تحقق العدالة والمساواة لجميع مواطنيها. هذا الفشل في بناء الدولة الحديثة، في رأي جعيط، هو انعكاس لأزمة ثقافية في فهم مفهوم "الوطن" و"المصلحة العامة".
وختاماً، "أزمة الثقافة الإسلامية" لِهشام جعيّط عملٌ مهمّ، ليس لأنّه يقدم وصفة جاهزة؛ بل لأنّه يقدّم "خارطة فكرية في صياغة سؤال الحداثة" من داخل التجربة "العربية – الإسلامية". تناول "أزمة الثقافة العربية الإسلامية" مفيد في التشخيص التاريخي والبنيوي، بينما تناول "الثقافة والسياسة في العالم العربي" يذكّر القارئ بأنّ المسألة ليست فقط مسألة تبعية خارجية، بل مسألة ضعف مؤسساتي وغياب مشروع داخلي.