المقاربة القرآنية تجاه الإنسان تحمل رؤية تكاملية بين المطلق والنسبي، ودون صدام، أو محاولات إكراهية، كما تسعى القراءات الأيديولوجية للنص للانحراف بالمعاني لجهة تعميم مقولاتها، وتحويل الإيمان إلى علامة دلالية في فضاء الجماعة المتخيلة، وبما يسهل عملية الإذعان، قسراً. فالخطاب القرآني عدّ الحرية الإنسانية واحدة من أكثر القضايا المركزية في متونه المؤسِّسة؛ إذ تمثل جوهر الكرامة البشرية وشرط الفعل الأخلاقي والوجودي.
خصوصية الحرية
وبالتالي، مقاربة الحرية في السياق الإسلامي تكتسب خصوصيتها من المرجعية القرآنية التي عاودت تعريف الإنسان والعالم والغاية من الوجود. فالحرية تتمفصل في الخطاب القرآني ضمن الأهداف الوجودية والأخلاقية بالنص؛ إذ يُعرّف الإنسان بأنه كائن مكرَّم ومستخلَف، قادر على الاختيار بين الإيمان والكفر، بين الحق والباطل، ما عبّر عنه الذكر الحكيم بوضوح، في قوله سبحانه: ﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ...﴾ [الكهف: 29].
بهذه الصيغة القرآنية المباشرة، واعتماداً على قوله تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ...﴾ [البقرة: 30]؛ فإن الإنسان "خليفة في الأرض"، بالمعنى التكليفي للبناء والعمارة بمستوياتها المختلفة، معرفياً وإنسانياً ووجودياً، كما يتلقى الحرية بوصفها ضرورة قرآنية. فالحرية في صميم التكليف، تتخطى كونها خياراً شكلانياً أو قيمة نسبية، بل عبارة عن شرط وجودي محايث لقيام الدين ذاته وتعيين الإيمان.
إذ إن الحرية في القرآن الكريم من المفاهيم المؤسسة للعلاقة مع الإنسان، على أساس امتلاكه الإرادة التامة، وأنه ليس مجرد أداة استعمالية، كما في المفاهيم المبتسرة للقوى الأصولية والسلفية، إنما غاية؛ وهي غاية لا تتحقق دون فضاء كامل يتسع للحرية والإرادة الإنسانيتين. وهذا ما يؤكده القرآن في آيات عديدة، مثل قوله عزَّ وجل: ﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان: 3]؛ التي تُبيّن بوضوح أن الهداية لا تلغي الحرية، بل تقدم للإنسان طريقين ليختار أحدهما بإرادته.
فيما يرى المفكر والفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، في كتابه "روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية"، أن الحرية في الإسلام ليست مجرد غياب القيود، بل هي نوع من "الائتمانية" أو "الاستخلاف" الذي يجعل الإنسان مؤتمناً على وجوده وعلى ما في الكون. من هنا، تبرز مسؤوليته الوجودية تجاه نفسه والآخرين، فالحرية وفقاً لهذا المنظور، شرط لتحقيق الأمانة الإلهية التي حُمّلها الإنسان.
حرية الاعتقاد
مثّلت حرية الاعتقاد، إحدى الركائز الأساسية لمفهوم الحرية في القرآن؛ فالإيمان لا يمكن أن يكون صحيحاً إلا إذا كان نابعاً من دوافع ذاتية وقدرة على تلقي الهِداية الكُلية بمساراتها اليقينية دون الإكراه الخارجي. بعبارة أخرى، أن تكون الحمولة النفسية الوجدانية والعقلية قد بلغت درجة التماس والتماهي مع الإيمان، وتشكل بنية كاملة له. وهذا ما تُعبّر عنه الآية الكريمة، في قوله عزَّ من قائل: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ...﴾ [البقرة: 256]؛ فالآية لا تعبر فقط عن حرية الاختيار، إنما تُعدّ حداً فاصلاً بين منهج الإيمان القائم على الاختيار، ومنهج العبودية القائم على القسر.
وعليه، يوضح المفكر السوري محمد شحرور، في كتابه "الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة"، أن حرية الاعتقاد تمنع الإكراهات الدينية في الإسلام؛ ومن ثَم، فإنها تمنع الإكراه على البقاء فيه، فالقرآن لا يذكر عقوبة دنيوية للردة، مثلاً، ويرى أن آيات قتال المرتدين مرتبطة بحالة خاصة وهي خيانة الدولة والانضمام إلى عدوها، وليست حكماً عاماً على كل من يُغيّر دينه. ثم يُميّز شحرور بين حرية الفكر وحرية العمل؛ إذ إن حرية الفكر والاعتقاد مطلقة، أما حرية العمل فمقيدة بالقوانين التي تحكم المجتمع.
الحرية والتشريع
لا تقتصر الحرية على الجانب الاعتقادي، بل تتغلغل في جميع أبعاد التشريع الإسلامي. فالنصوص التشريعية تهدف في جوهرها إلى تحرير الإنسان من القيود التي تعوق حركته في الحياة، سواء كانت اجتماعية (العبودية)، أو اقتصادية (الربا)، أو فكرية (الجمود والتقليد). فقد جاء التشريع القرآني ليُحرّر الإنسان من عبادة غير الله، وهي نقطة الارتقاء في سياق تاريخية الإسلام لإحداث التحرر الفردي والاجتماعي. ويقول محمد إقبال، في كتابه "تجديد الفكر الديني في الإسلام"، إن رسالة الإسلام هي تحرير الإنسان من جميع أشكال العبودية التي تُقيّده، وإن هذا التحرير يُمثّل روح الدين الإسلامي.
لهذا، ينطلق الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن في قراءته للحرية من مفهوم "التخلّق"، إذ يرى أن الحرية الحقيقية في المنظور القرآني ليست مجرد انفلات من القيود الخارجية أو التمرد على السلطة، بل فعل تحرر داخلي من نوازع النفس والهوى، بما يجعل الإنسان قادراً على ممارسة إرادته في إطار التزكية. وفي كتابه "روح الحداثة"، يذهب إلى أن الحرية التي ينادي بها القرآن "حرية مؤيَّدة"، أي إنها مرتبطة بالمسؤولية الأخلاقية، وليست حرية منفلتة أو متحللة من المعايير. يقول: "الحرية في التصور الإسلامي لا تتحقق إلا إذا اقترنت بالتزكية، فالحرية المنفلتة من الضوابط الأخلاقية تتحول إلى عبودية للشهوات، في حين أن الحرية المؤيَّدة تجعل الإنسان قادراً على تحقيق كماله الوجودي".
من هذا المنظور، تصبح الحرية القرآنية حرية موجَّهة نحو الحق، والعدالة، والقسط، وليست حياداً مطلقاً بين الخير والشر. فهي لا تنفي الاختيار، لكنها تؤكد أن حسن الاختيار هو ما يمنح الفعل الإنساني معناه وقيمته. من هنا، واصل الفيلسوف المغربي انتقاداته للحداثة الغربية ومفهومها حول الحرية التي تساويها، على حد تعبيره، أحياناً بالتحرر من كل سلطة، معتبراً أن هذا النموذج "يقود إلى اغتراب الإنسان عن ذاته"، لأن الحرية التي لا تعترف ببُعد الإنسان الروحي تفضي إلى فراغ وجودي، بينما القرآن يؤسس حرية متوازنة بين الروح والجسد، بين الفرد والمجتمع.
ويقول طه عبد الرحمن، في كتابه "سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم"، إن "الفصل بين العقل والقلب أفضى إلى ترسيخ الاعتقاد، لدى جمهور المسلمين، بأن العقل جوهر كائن في حيز مخصوص من القلب أو من الدماغ.. والحقيقة أن القلب هو مصدر الإدراكات العقلية.. كما أن القلب هو مصدر القيم الأخلاقية.. بحيث يكون في صلاحه صلاح الأعمال والتصرفات".
الحرية والإيمان
بخلاف طه عبد الرحمن، ذهب المفكر السوري محمد شحرور إلى مقاربة مغايرة للحرية القرآنية؛ إذ يربطها بالانعتاق من الوصاية الفقهية والسلطة التأويلية التي تراكمت عبر القرون. في كتابه "الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة"، يرى شحرور أن النص القرآني نزل ليخاطب الإنسان الحرّ العاقل، وأن جوهر الرسالة يتمثل في تحرير العقل من سلطة الكهنة والوسطاء، مؤكداً أن الدين في جوهره ليس فيه أي نظام قسري، أو رؤية متعالية تسعى لإهدار الإرادة الإنسانية وتصفية الوجود البشري وكرامته، تحت إطار الوصائية أو السلطة الدينية التاريخية؛ والأخيرة قد أعادت، من خلال القوى المؤدلجة الأصولية والسلفية المتشددة، إنتاج نوع من "العبودية الفكرية"؛ إذ حُجب النص عن القراء العاديين ومنع تعددية القراءة والتأويل، وقُدّمت التأويلات الفقهية بوصفها الحقيقة التامة والنهائية المطلقة.
بالتبعية، تبدو "الحرية ضرورة قرآنية" لإعادة إنتاج المعنى، إذ إن الوحي ذاته لا يكتمل إلا بفعل الإنسان الحر الذي يتلقاه بوعيه وينسجم معه إيمانياً وشعورياً، ثم يفسره في ضوء معطيات عصره. كما لا تتحقق كرامة الإنسان إلا إذا استعاد الإنسان قدرته على الاجتهاد وفهم النص بعيداً عن وصاية الجماعات المغلقة.
بهذا المعنى، يصبح تحرير العقل شرطاً لتحرير المجتمع، والعكس صحيح. أو كما يرى الإمام محمد عبده أن الحرية القرآنية هي مشروع متكامل لتحرير العقل المسلم من الجمود والتقليد. وفي تفسيره لآيات الشورى وحرية الاعتقاد، يؤكد أن الإسلام جاء ليقيم دين العقل، وأن الوحي لا يناقض الفطرة، بل يؤكدها. وفي كتابه "رسالة التوحيد"، يؤكد أن الإنسان في القرآن مخاطب بعقله قبل أي شيء، وأن الحرية شرط لممارسة الإيمان، إذ إنه "لا معنى لإيمان مكرَه، ولا لقناعة مستلبة، فالإيمان لا يقوم إلا على العقل والاختيار". في حين يمتد مشروع محمد عبده الإصلاحي إلى المجال الاجتماعي، إذ يرى أن غياب الحرية يقوّض إمكانات النهضة، وأن المسلمين لا يمكنهم استعادة فاعليتهم الحضارية إلا إذا تصالحوا مع القيم القرآنية التي جعلت التفكير فريضة والاختيار حقّاً أصيلاً.
وبالتالي، فإن القرآن يؤسس رؤية تكاملية للحرية تتجاوز ثنائية الفرد والجماعة. فمن جهة، يضع النص القرآني مسؤولية الفرد في قلب مشروعه الوجودي، إذ يُخاطب كل إنسان بصفته كائناً عاقلاً قادراً على التمييز. لكن، من جهة أخرى، لا ينظر القرآن إلى الحرية بمعزل عن المصلحة العامة أو قيم العدل والشورى.
وختاماً، فحرية الفرد ليست دعوة إلى الفوضى، إنما هي بالأساس فعل أخلاقي. ومن ثَم، توجد ضرورة لإعادة اكتشاف مركزية الحرية في الوحي. فالحرية هي شرط الإبداع والنهوض وتجديد الفقه وإعادة بناء المجال العام على أسس من الكرامة الإنسانية والمواطنة المتساوية. كما أن استعادة هذا البعد القرآني والأصل الثابت للحرية، يعني، بالضرورة، نقد بنى الاستبداد الديني كما لدى الأدبيات الأيديولوجية للجماعات الأصولية والفكر الماضوي، وهو ما يجعل المشروع القرآني في جوهره مشروعاً للتحرر ورفض الهيمنة والجمود والإقصاء والوصائية.