العقل والمعرفة القرآنية (1):

النظر العقلي وسُبل إنتاج المعرفة

مركز حوار الثقافات

05-10-2025

مثّلت قضية العقل "الإبستيمي" في الفكر الإسلامي إشكالية مركزية؛ إذ إنها ما تزال تثير جدلاً عميقاً في مساعي النهضة والتجديد المتكررة والشاقة. فالعقل، هنا، لا يُفهم باعتباره مجرد أداة للتفكير المنطقي، لكن بوصفه بنية معرفية تحدد سُبل إنتاج المعرفة وتبريرها، سواء كانت هذه المعرفة دينية أم دنيوية؛ فيما تبرز الإشكالية الجوهرية من خلال جدلية العلاقة الثنائية التقليدية، بين العقل كمنتج للمعرفة، والنقل كمرجعية نصية مقدسة (القرآن والسنة). 

أولوية العقل 

وقد سعى المفكرون المعاصرون، كما في التراث، ممن تبنوا أولوية العقل على النقل، أو التوفيق وعدم التعارض بين الاثنين، إلى معالجة الأزمة، المتسببة في انحسار الوعي وأفول الحضارة وجمود العقل والنقد، عبر العودة إلى التراث؛ ليس كغاية في ذاته، بل لاستكشاف الأصول العقلانية فيه وإعادة تفعيلها، بما يتلاءم مع متطلبات العصر الملحة، وتأكيد تعددية الإسلام، وأنه ليس نسخة أحادية مغلقة ونهائية. فالمشاريع الفكرية النهضوية قدمت مقاربات مختلفة، كل منها انطلق من رؤيته الخاصة لتاريخ العقل في التراث الإسلامي، ودوره في إحداث النهضة المأمولة.

ويمكن القول إن العقل في الخطاب القرآني يشكل مفهوماً مركزياً ديناميكياً يختلف عن التجريد الفلسفي اليوناني، الأمر الذي برز على نحو دقيق في الإسهامات، المعرفية والفلسفية، للمفكرين والفلاسفة المسلمين الأوائل. فالقرآن لم يذكر لفظ "العقل" كاسم، بل أورده دائماً بصيغة الفعل، مثل "يعقلون" و"تعقلون"، في أكثر من موضع بالخطاب الوحياني، وسواء بالآيات المكية أو المدنية، بما يعني أولويته القصوى المحايثة لتاريخ نزول الوحي.

ويؤشر التركيز على الفعل إلى أن العقل لا يعد مجرد كيان جامد أو جوهر مجرد، بل عملية مستمرة لها ديمومتها وسيرورتها التاريخية والمعرفية، وفق شروط مختلفة، بعضها داخلي والبعض الآخر خارجي. كما أن العقل هو بمثابة فعل إدراكي وحركي يتطلب التفعيل. ويتغلغل هذا المفهوم في مقاصدية النصّ المؤسِّس، من خلال الربط القرآني بين العقل والقلب والوجدان والنفس، حيث يرد في التنزيل الحكيم مثل قوله سبحانه: ﴿لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا...﴾ [الأعراف: 179]؛ وقوله تعالى: ﴿أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ...﴾ [الحج: 46]. وهذا يوضح أن العقل، في المنظور القرآني، ليس مجرد قدرة منطقية أو معرفية، بل هو فعل إبستيمي شامل ينطلق من القلب، الذي يُعتبر مركز الفهم والوعي والإدراك.  

الإبستيمية القرآنية

إذاً، تتعدد الوظائف الإبستيمية للعقل القرآني، فهو يمثل أداة أساسية للتفكر والتدبر، حيث يحث القرآن على التأمل في آياته الكونية والوجودية للوصول إلى الإيمان، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ [آل عمران: 190]. ولأنه معيار التمييز بين الحق والباطل؛ فقد ذم الذكر الحكيم، على وجه الخصوص وبشكل واضح ومباشر دون تردد، أولئك الذين يعطلون العقلانية كمفهوم وأداة، وتتعطل معها بالتبعية الحجة والبرهان، باعتبارها قيماً قرآنية في بحثهم عن الحقيقة. 

علاوة على ذلك، فالعقل أداة للحوار والإقناع بالدليل والبرهان، ومساحة التواصل وعدم التنابذ؛ بل التسامح مع "الناس" بالمعنى القرآني، بصرف النظر عن صفة أو هوية الانتماء الديني والموقع الإيماني؛ بما يؤكد دعوة الإسلام إلى التفكير النقدي، بدلاً من التقليد الأعمى، الذي يؤدي بالضرورة إلى العنف والبطش والهمجية في صورتها "الجاهلية"، التي تعني "العصبية" وفق تمظهراتها التاريخية في بيئة البداوة القديمة. 

فالشريعة (القرآن والحديث)، تُوجب النظر الفلسفي، كما تُوجب استعمال البُرهان المنطقي، لمعرفة الله تعالى وموجوداته. وقد ساق ابن رشد لهذا وذاك دليلاً من القرآن، وهو قوله عزَّ وجل: ﴿... فَٱعۡتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ﴾ [الحشر: 2]، مُبيناً أن "الاعتبار"، هنا، ليس إلا استنباط المجهول من المعلوم، وهو القياس الفلسفي أو المنطق المعروف. 

ثم يقول الفقيه والأزهري المصري محمد يوسف المصري، في كتابه "بين الدين والفلسفة"، إن هناك عدة آيات بالخطاب القرآني تؤسِّس لفكرة وأهمية القياس البرهاني والنظر العقلي الفلسفي، بل وتحثُّ على استعمال العقل والنظر في الموجودات، ومن ذلك قوله عزَّ من قائل: ﴿قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ...﴾ [يونس: 101]؛ وقوله تبارك وتعالى: ﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ...﴾ [الزمر: 9]؛ وقوله سبحانه: ﴿يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ...﴾ [البقرة: 269]. 

ويتابع: "وإذا كان الشرع يُوجب النظر الفلسفي، فمن الواجب أن نلتمس تأويل ما لا يتفق معه من النصوص، على أن يتفق هذا التأويل وقواعد اللغة العربية، وذلك لأنّ من المقطوع به، كما يقول ابن رشد، أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن هذا الظاهر يقبل التأويل حتى لا يصطدم الشرع والعقل، كما أنه من الجائز أن يؤدي البرهان إلى نتائج تتفق وظواهر النصوص التي أجمع المسلمون على تأويلها، أو تتفق والمعاني الخفية الباطنة التي أجمعوا على أخذها حسب ظواهرها. وبعبارة أخرى يجوز أن يؤدي البرهان إلى مخالفة الإجماع في الأمور النظرية، ما دام الإجماع لا يُمكن أن يتحقق بيقين من العلماء جميعاً في عصر من العصور".

العقل والشريعة

النظرة القرآنية للعقل كفعل لا ككيان مجرد، يمنع تحويله إلى "ألوهية عقلية" كما حدث في بعض الفلسفات اليونانية، الأمر الذي تسبب في شيوع نظرة سلبية هجومية شائعة من قبل القوى الماضوية والأصولية السلفية المتشددة، ونجم عن ذلك نظرة تحقيرية وتكفيرية. ولهذا تراكمت فصول من الصراع التاريخي بين عقلانية الفلاسفة وعقلانية المتكلمين حول حدود العقل ودوره. 

بالتبعية، كان ابن رشد يميل إلى فكرة العقل في فهم الشريعة، بل يرى التأويل ضرورة للشريعة و"الفلسفة/الحكمة" معاً، كما في كتابه: "الكشف عن مناهج الأدلة". غير أنه حدد "ما يجوز من التأويل في الشريعة وما لا يجوز، وما جاز منه فلمن يجوز"؛ موضحاً أن يكون "المعنى الظاهر من النص هو المراد حقيقة في نفس الأمر، وهذا الصنف لا يجوز تأويله مُطلقاً، بل يجب أخذه حسب ظاهره للناس جميعاً. وأن يكون المعنى الظاهر للنص ليس مراداً، بل هو مثال ورمز للمعنى المقصود حقيقة، ولكنه لا يعلم أنه مثال، ولا لماذا اختير بذاته ليكون مثالاً ورمزاً لذاك المعنى الخفي، إلا بقياسات بعيدة مُرَكَّبة لا يوصَل إليها إلا بتعلم طويل وعلوم جمّة، لا يقدر عليها إلا الخاصة من الناس، وهذا الصنف لا يجوز أن يؤوِّله إلا الراسخون في العلم، وليس لأحدهم التصريح به لسواهم".

ويقول كذلك: "أن يكون المعنى الظاهر مثالاً ورمزاً أيضاً لمعنى آخر خفي، ولكن من اليسير أن يُفهم أنه مثال ولماذا هو بذاته مثال، وهذا الصنف ليس لأحد الأخذ بظاهره، بل لا بد من تأويله، والتصريح بهذا التأويل للجميع". 

على هذا الأساس، فإن العقل الإبستيمي، هو شبكة من المسائل المنهجية المعيارية التي تحدد كيفية الوعي النقدي واكتساب المعرفة، بعيداً عن المعنى التقليدي للفكر وقدراته على الاستدلال. فبحسب ما يوضح ابن رشد من ناحية مفاهيمية وتقييمية، فنحن بصدد إطار ثقافي يوزع أدوار الصدق واليقين والاحتمال، ويضع قواعد حول من له صلاحية القول ومن له حق الاستدلال؛ ومن ثم، آليات الانتقال من الشك إلى الظن إلى العلم. هذه المنظومة تضم مبادئ مثل مرجعية الدليل، شروط التعميم، حدود الاستقراء، ومعايير التفسير. 

وختاماً، القرآن كبنية خطابية، هو متعدد المستويات، وبالتالي تتفاوت إمكانات التلقي. وهذه البنية تجمع بين دعوات إلى التدبر والنظر في آيات الكون، وبين أساليب برهانية تستند إلى الحجج العقلية والخطابية، وبين أوامر تشريعية تهدف إلى تنظيم الفعل الاجتماعي. من هنا، يتبيّن أن النص القرآني نفسه ينطوي على ما يمكن توصيفه بآليات وقواعد اشتغال معرفية، تميز بين الظن واليقين، كما ترد على الشك بالحجج، وتضع محددات وآليات عملية منهاجية لاختبار الفرضيات (التدبّر، تأمل الآيات، قياس النتائج الأخلاقية والتاريخية). هذا التأسيس القرآني يؤسس لبيئة تنبني في فضاءاتها عقل إبستيمي له فعاليته مع النص.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

معركة ذي قار: مقدمات الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس

30-01-2025

اتجاهات ثقافية

الحور العين: اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة

01-09-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

دليل التدين العقلي: عقلنة الدين لأجل الإصلاح الجذري

20-11-2024

قراءات عامة

خليد بنعكراش: القواعد "الست" في فهم وتأويل القرآن

01-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة