ليس هناك أي تعارض بين العقل والدين، أو الحكمة والشريعة، بل إن الخطاب القرآني يلح على أهمية وأولوية النظر العقلي في الظواهر الوجودية، وكذا الوصول إلى اليقين، بالتماس كافة الأدوات العقلانية والوجدانية معاً.
بالتالي، فإن المحاولات التعسفية التي أهدرت التراث العقلاني في التاريخ العربي والإسلامي، كانت تهدف إلى تقديم رؤية مغلقة وسردية أحادية لا تقبل التعدد أو الاختلاف، كما تَحول دون إمكانات النقد والإبداع، لإيجاد حوامل اجتماعية لبرامج أيديولوجية تعبوية، وليس فواعل إنسانية في حركة تاريخية تطورية.
عقلنة التراث
بالتالي، فالتراث النظري للفلاسفة وجهود المصلحين في فترات تاريخية متفاوتة، بقدر ما يضئ على هذه الجدلية أو الإشكالية بالفكر الإسلامي، والتي ما زالت حاضرة في الخطاب الفكري المعاصر، فإن مسألة العقل الإبستيمي لها صلات جوهرية وعميقة وجذور في هذا التاريخ كما بالنص الديني المؤسِّس. فالذكر الحكيم، قائم في خطابه على ضرورة تدشين بنية معرفية بغرض إنتاج المعرفة؛ فضلاً عن فهم وتلقي الخطاب. فالعقلانية قائمة في التراث، والذي لا يعني الاستدارة للماضي والانجذاب المتوهم له، بالتخلي طوعاً أو كرهاً عن العقل ومعطيات المنطق والواقع. لهذا، فإعادة تعريف هذا العقل، والبحث عنه وإيجاده، وتعيينه بالواقع في ضوء تحديات الحداثة، ضرورة ملحة، تبدأ بتفكيك نماذج التراث المؤدلج في صيغته الأصولية والسلفية المتشددة.
وبحسب العالم الأزهري محمد عبد الله دراز، في كتابه "كلمات في مبادئ علم الأخلاق": "فإن القرآن يقرِّر في أصرح عبارة أن النفوس كلَّها قد مُنِحَت بفطرتها قوة التمييز بين الخير والشر، والعدل والظلم، والتقوى والفجور كما في قوله تعالى: ﴿وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا ٭ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا﴾ [الشمس: 7-8]؛ وقوله سبحانه: ﴿بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ ٭ وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِيرَهُۥ﴾ [القيامة: 14-15]. ثم لا يكتفي بأن يجعل هذه البصيرة قوَّة كاشفة معرِّفة؛ بل يجعلها آمرة ناهية، وينعى على مَن يخالفها بأنه من أهل الضلال والطغيان".
ويتابع: "ألا فاعلم أنه ليس في الدنيا عاقل: أشعري ولا معتزلي ولا غيرهما، ينكر ما منحه الله للإنسان من ملكة التمييز بين الأفعال والحكم عليها بالحسن أو القبح، بمعنى أن بعضها يُعَدُّ صفة كَمال، وبعضها يُعَد صفة نَقْص، أو أن بعضها يقبله الطبع المستقيم، وبعضها يمجُّه الذوق السليم، أو أن بعضها يُمدَح فاعله، وبعضها يُذَم مرتكِبه … فذلك كله ممَّا لا جدال فيه".
مشروعية العقل
يمكن القول إن التركيز على العقل في خطاب الوحي، له دلالة إبستيمية عميقة، الأمر الذي عمل عليه المعتزلة. ولقد أسَّس المعتزلة مشروعاً فكرياً متكاملاً لجهة التوفيق بين العقل والنقل، لكنه مال بوضوح إلى إعطاء العقل الأسبقية في تدبر الشؤون الدينية وفهمها. وتجلت عقلانيتهم في أصولهم الخمسة، لا سيما "التوحيد" و"العدل".
ففي "التوحيد"، طالبوا بتنزيه مطلق لله عن أي صفات قديمة زائدة عن ذاته، لأن العقل يرفض مشاركة شيء لله في القدم. وفي "العدل"، رأوا أن العقل مستقل بالتحسين والتقبيح، مما قادهم إلى القول بأن الإنسان خالق لأفعاله، الأمر الذي يترتب عليه منطق الثواب والعقاب. وفق ما يذكر الباحث المصري سامح إسماعيل مبروك في كتابه: "الله والإنسان".
فمقولات المعتزلة الرئيسة كانت بمثابة حجر الزاوية في بناء خطاب عقلاني، على الرغم من إقصائهم لاحقاً، وقد استمرت أفكارهم في إنتاج مقاربات جديدة حتى العصر الحديث. واستخدمها الباحثون والمفكرون المعاصرون في إعادة التفكير في أمور الدين بما يتوافق مع العصر. كما يُمثل مشروع المفكر المغربي، محمد عابد الجابري، "نقد العقل العربي"، محاولة إبستيمولوجية تاريخية عميقة ومعاصرة لتشخيص أزمة الفكر العربي، وذلك عبر تحليل أنساق إنتاج المعرفة. وقد اعتمد على منهجية تتبنى التحليل البنيوي والتاريخي، بينما كشف عن العناصر الأيديولوجية الكامنة في الخطاب الفكري.
وصنّف الجابري العقل العربي إلى ثلاثة أنساق معرفية رئيسة: "البيان"، وهو نظام المعرفة القائم على النص واللغة، وتجسد في علوم الفقه والأصول والنحو، وعدّ هذا النسق مهميناً على الفكر العربي، وأدى إلى الجمود بسبب تركيزه على اللفظ بدلاً من المضمون، مما أدى إلى استقالة وتنحية العقل في كثير من الأحيان. ويضاف لذلك، "العرفان"، وهو نظام معرفي قائم على الكشف والإلهام والاتصال الروحي، ويظهر في التصوف والفكر الباطني. وقد رفضه الجابري تماماً كخيار نهضوي، لأنه يرتكز على الذوق الفردي والغيبيات، واعتبره سبباً في تدهور الحضارة الإسلامية. ثم "البرهان" وهو نظام معرفي قائم على العقل والمنطق والتجريب، ويمثله ابن رشد كقمة للعقلانية في التراث العربي.
وعليه، فالحل بالنسبة لصاحب "نقد العقل العربي"، يكمن في إحياء نسق "البرهان" الذي انقطع تطوره بعد ابن رشد، وأن هذا النهج هو الذي يمكن أن يقود النهضة العربية الحديثة.
المناهج المعاصرة
في المقابل، أعطى المفكر السوري جورج طرابيشي أولوية قصوى لمشروع نقد العقل العربي، وإن كان ارتبط بعنوان عريض امتد لعقدين هو "نقد نقد العقل العربي"، حيث إن مشروعه قام على توجيه نقد لاذع للجابري في عدة جوانب، أبرزها النزعة الأيديولوجية لديه، حيث ربط العقلانية بالمغرب العربي، وأقصى فلاسفة المشرق مثل ابن سينا، مما أنتج صورة اختزالية ومبتسرة للتراث.
لكن على كل حال، تجاوز مشروع طرابيشي الذي امتد لنحو عقدين أو أكثر قليلاً، وصدر في خمسة مجلدات، مجرد النقد إلى بناء قراءة موازية ومضادة بشكل جذري؛ وقد تركزت انتقاداته حول نقاط منهجية جوهرية، منها اختزال التراث الإسلامي المعقد في أنساق معرفية تبسيطية، من دون مراعاة التداخل والتفاعل بينها، والنزعة الأيديولوجية، وغياب المحاولة العلمية المحايدة.
وبخلاف الجابري، اعتبر طرابيشي أن الحل لا يكمن في استعادة "عقل برهاني" من الماضي، بل في تبني "عقل نقدي علمي حديث" يبدأ من الحاضر، كما في كتابه: "نقد نقد العقل العربي"، وأن الحداثة تتطلب قطيعة منهجية مع التراث، وليس مجرد إعادة ترتيبه ضمن أنساق جاهزة. وبالتالي، فإن هذا الخلاف يكشف عن تناقض عميق في رؤية الحداثة العربية بين من يريدها من داخل التراث، ومن يراها قطيعة ضرورية معه.
رؤية طرابيشي تتوافق إلى حد كبير مع المشروع النهضوي والحداثي للمفكر السوري محمد شحرور، والذي تبنى ضرورة القطيعة مع التراث التفسيري، وباشر في مشروعه الأهم القراءة المعاصرة للقرآن، والذي يقوم على فكرة أن النص القرآني نص "حي" و"متعالٍ" عن زمان نزوله؛ ومن ثم، يجب أن يُقرأ بـ"عيون الأحياء لا بعيون الأموات". فيما استندت عقلانيته إلى عدة أسُّس منهجية: أولها، أن ما أُنتج من تفسيرات حول القرآن، هو "تراث محض" يخضع للنقد التاريخي، كما ذكر في كتابه "الكتاب والقرآن". ويرى أن التمسك بالتفاسير القديمة يحول الاجتهادات التاريخية إلى نصوص مقدسة أكثر من الأصل نفسه.
كما أكد على "مرونة التشريع"، وقسم التشريع القرآني إلى ثابت (المحرمات الواضحة)، ومرن (المتشابه)، مما يمنح العقل مساحة واسعة للعمل بما يتوافق مع المعطيات الحضارية لكل عصر. من ثم، لا يكتفي منهج شحرور بالعودة إلى الأصول، بل يدعو إلى التحرر من كل ما علق بالنص المؤسس من "تأويلات زمنية"، ليكون قادراً على التواصل مباشرة مع العقل المعاصر.
تفعيل العقلانية
في الأحوال كافة، رغم تمايز المناهج الفكرية المعاصرة الثلاثة، وتباين أطرها النظرية ومدخلاتها ومخرجها، فإنها تنطلق من أسس معرفية عقلانية بالتراث والفكر الإسلاميين، مؤكدة على أن إشكالية العقل في الفكر الإسلامي المعاصر ليست مسألة واحدة، بل هي مجموعة من المسائل المتداخلة.
إذ تبنى المفكرون الثلاثة ضرورة تفعيل العقل لمواجهة تحديات الحداثة، وأفول الحضارة عربياً وإسلامياً، والانعتاق من الانسداد التاريخي. فمال الجابري إلى ما يمكن توصيفه بالرؤية الاستعارية، من خلال إحياء عقلانية من الماضي (ابن رشد مثلاً)، وتقديمها كإطار عملي ونظري جاهز للنهضة، الأمر الذي رفضه طرابيشي معتبراً أن التحرر من الماضي هو شرط أساسي للنهضة، ثم مد الخط على استقامته وبموازاته شحرور الذي دعا هو الآخر إلى قطيعة منهجية كاملة مع التراث، وقراءة النص القرآني مباشرة بعيون العصر وأدواته، مما يضعف سلطة القوى الأصولية والسلفية المتشددة، وبالمقابل، يضاعف من دور الفرد في فهم النص.
وختاماً، فإن العقل الإبستيمي في الإسلام حاضر ومحايث له وليس خارجاً عن نطاقه التأسيسي، ومراحل التكوين والانشغال، بل يمكن التحقيب له. والمهمة لا تقتصر على مجرد استخراج المعرفة من النص، بل تتعداها إلى تكوين بنية معرفية شاملة وقادرة على التفاعل معه بمرونة، ومن دون أن تتقيد بحدود زمانية ومكانية لم يعد لها وجود. إذاً، تتعدد الأدوات المنهجية والتاريخية، بما يؤدي إلى رؤية مؤسِّسة للعقل الإبستيمي. والثابت هو وجود طاقة كامنة في النص الديني تنتظر العقل المعاصر لتفجيرها.