يمكن القول إنّه من المشروع، في ضوء القراءة النقدية لتاريخ التشكّل المبكر للوعي الإسلامي، الإشارة إلى أنّ اللحظة الأموية دشّنت طوراً جديداً في جدل العلاقة بين النص والسلطة، فقد انبثق، ولأول مرة بصورة منظّمة، فعل توظيف النص بوصفه أداةً سلطوية لإعادة إنتاج الشرعية الدينية وموضعتها في الحقل السياسي.
ويمكن النظر إلى الحقبة الأموية، كذلك، بوصفها لحظة تأسيسية لانبثاق ما يمكن تسميته "إنتاج الرمز الديني"، فقد غدت النصوص الثواني مجالاً للصناعة والتلاعب، بشكل يتجاوز حدود التلقي المباشر والبسيط، إلى فضاء الإنتاج الموجَّه بكل أدوات الإكراه التي تملكها السلطة.
فقد أدرك معاوية بن أبي سفيان أنّ العنف وحده غير كافٍ لاستقرار الحكم، وأنّ الأساس يكمن في خطاب يرتكز على شرعية دينية متجددة، ففتح الباب على مصراعيه أمام حركة وضع منظمة للحديث، جعلت من الرواية أداة استراتيجية لتثبيت سلطان الدولة وإضفاء المشروعية على وجودها.
السياسي والديني
حاولت السلطة الأموية بكل أدواتها إعادة تشكيل الحقل الديني، وتحوَّل الراوي إلى فاعل نفعي، يصوغ نصوصاً مزيّفة تتماهى مع إرادة الحكم.
الأثر الأشد خطراً لم يكمن فقط في التزييف المقصود، ولكن في تلك الفجوات المعرفية التي ولّدها عجز الراوي عن حفظ دقائق الواقعة وتفاصيل الرواية. فمن حيث يظن أنّه ينقل الحقيقة كما وقعت، كان يُدخل، من حيث لا يشعر، إضافات وتأويلات تستكمل النقص وتملأ الفراغ؛ فتتحول الذاكرة إلى نص مهجّن، يختلط فيه الوعي باللا وعي، والصدق بالافتراض، والحقيقة بالتدليس. وهذا ما جعل "الوضع" لا مجرد فعل تزوير خارجي، بل سيرورة معقّدة، تذوب فيها الحدود بين ما وقع حقاً، وما اختُلِق في سياق الحاجة إلى بناء سرديّة مكتملة.
وعليه، تجلّت في التاريخ مأساة مزدوجة: من جهة، فقهاء السلطان الذين راهنوا على سوق السياسة؛ ومن جهة أخرى تحللت البنية السردية ذاتها، وهي تحمل في دواخلها قابلية التعديل والانتحال بحكم هشاشة الذاكرة البشرية. وبذلك، جرى اعتماد سرديّة واحدة في سياق نص متشظٍّ خاضع لسلطة أموية تُنفق المال لتضمن اكتساب "الشرعية"، ورواة يملؤون الفراغات وفق ما يقتضيه المقام؛ في دائرةٍ عبثيةٍ تتقاطع فيها النزعة البشرية بكل ضعفها، بالهيمنة السياسية في ذروة عنفوانها.
ولا ينبغي إغفال البُعد المعرفي لهذه الظاهرة؛ إذ إن التفاوت بين الرواة في مَلكاتهم الذهنية وقدرتهم على استبقاء تفاصيل الحوادث بدقة، أفضى إلى انحرافات لا واعية في نقل الرواية، فقد تسللت الفجوات التي جرى ملؤها بفرضيات واستدراكات شخصية، غالباً دون وعي صريح من الراوي. وهكذا، تموضعت الرواية لا كممارسة احتيالية فحسب، بل كعملية معرفية معقّدة، يتداخل فيها الوعي واللا وعي، الإرادة والتلقائية، في إنتاج خطاب ديني مشروط بشروط السلطة ومصالحها.
صراع الهيمنة
اضطلع بنو أمية بدور محوري في ظاهرة وضع الحديث واختلاق الروايات؛ إذ لم يكن هذا الفعل عَرَضاً طارئاً، وإنما آلية استراتيجية عملت بفعالية على تثبيت سلطانهم، وتغليفه بهالة من الشرعية الدينية. فالحديث، وقد كان يُنظر إليه باعتباره النص المكمّل للوحي، ومجالاً من مجالات إنتاج الحقيقة الدينية، تحوّل في هذا السياق إلى أداة في "صراع الهيمنة"، حيث جرى تسخيره لتكريس رموز بعينها وإضفاء مشروعية مفارقة على سلطة زمنية متسلطة.
ولئن كان هذا التلاعب بالخطاب النبوي ابتكاراً أموياً في صورته المؤسّسة، فإنّه لم يظل حكراً عليهم؛ إذ سرعان ما ورث العباسيون ذات المنهجية، مستثمرين النص المختلق، لتأمين شرعية حكمهم وإعادة تشكيل الذاكرة الجماعية وفق مقتضيات سلطتهم؛ الأمر الذي يكشف عن الطابع الأداتي للنصوص الثواني، حين تُستحضر لتمرير الأيديولوجيا السياسية.
ومع تفجُّر التصدعات المذهبية وانشطار الخطاب الديني إلى جبهات متعارضة، تحوّل الحديث النبوي من كونه وعاءً للمعنى الروحي، إلى ميدانٍ للصراع المذهبي، فقد جرى استدعاء "آلية الوضع" بوصفها أداةً لتوليد الشرعية المعرفية لكل نسق مذهبي. وفي هذا الانزياح، لم يعد النص مجرد انعكاس للحقيقة، بل صار موضوعاً لإنتاج الانحيازات المذهبية وتكريسها، فبات يتغذّى على حاجات الهوية والانتصار المذهبي.
بهذا التكاثر المحموم للروايات المصطنعة، تكوَّن تراث روائي موازٍ، مشبع بالزيف؛ من جهة، يعكس رغبة الفرقاء في تثبيت ذواتهم داخل التاريخ الإسلامي؛ ومن جهة أخرى، يكشف عن هشاشة العلاقة بين النص المقدّس ومتلقّيه، حين يُختزل في مجرد وظيفة سلطوية أو أيديولوجية. فها هو المغيرة بن سعيد يقول: "وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل الحرام"(1). وبلغ بالبعض أنه لم يقتصر على اختراع الحديث، بل وُجِد من يضع للمتن المزور إسناداً صحيحاً مشهوراً.
في سياق هذه التحولات التي عصفت بالمجال الديني والسياسي على السواء، انبثق نمط من الرواة الذين جعلوا من وظيفة الحديث سلعة رمزية، يتوسّلون بها إلى السلطة، فاستحالت الرواية لديهم أداة للتملّق ووسيطاً لإنتاج شرعية زائفة. ومع صعود علم الإسناد وتقعيد طبقات الرجال، انعكس ميزان الحقيقة من جوهر الخطاب إلى مرجعية القائل، فصار مدار الحق يدور حول هوية الناقل لا حول بنية المنقول، وكأنّ النص فقد استقلاله ليغدو مرتهناً بسلطة السند.
تواتر الروايات
وفي خضم هذه الانحرافات، تواترت روايات وُضِعت بإحكامٍ لخدمة المذاهب المختلفة، حتى نُسبت زوراً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، مُصوِّرة إياه وكأنّه يتحدث عن الغيب الذي لا يملكه إلا الله، في مسعى لانتزاع الشرعية للأئمة الأربعة أو لغيرهم من الرموز. فقد تحوّل الحديث من خطاب قدسي إلى بنية مؤدلجة، ومن نص تأسيسي إلى أداة لتشييد السلطة وتكريس الهيمنة..
مثال لذلك، ما رُوي عن أنس أنّه قال: قال رسول اللّه: "سيكون رجل في أمتي يقال له النعمان بن ثابت، ويُكنّى أبا حنيفة، يُحيي دين اللّه تعالى وسُنتي"(2). وفي المقابل يخرج أنصار الشافعي برواية تزكّي صاحبهم، فيُروى عن رسول اللّه أنّه قال: "أكرموا قريشاً فإنّ عالمها يملأ طباق الأرض علماً". وفي الإمام مالك يُنسب للرسول عليه الصلاة والسلام أنّه قال: "يخرج الناس من المشرق إلى المغرب فلا يجدون أعلم من عالم أهل المدينة". وفي حديث آخر: "يكاد الناس يضربون أكباد الإبل فلا يجدون أعلم من عالم المدينة"(3). وعن الإمام أحمد بن حنبل، روى أحمد من محمد بن عبد الحميد الكوفي قال: "سمعت إبراهيم بن خرزاد قال: رأى جار لنا كأنّ ملكاً نزل من السماء ومعه سبعة تيجان، فأول من تُوج من الدنيا أحمد بن حنبل"(4).
يبدو جليّاً وجود عامل آخر، يتجاوز البنية السياسية والسلطوية، يتمثل في هاجس البحث عن الهوية؛ ذلك أنّ عرب الجزيرة، وقد افتقدوا مرتكزاً حضارياً عميقاً، أو رصيداً ثقافياً يُضاهي ما لدى الأمم المفتوحة من تراكم معرفي ورمزي، وجدوا أنفسهم في مواجهة فراغٍ يهدد ذواتهم الجماعية بالذوبان في مدارات حضارية أكثر منهم رسوخاً. فكان الالتجاء إلى الدين لا بوصفه ممارسة إيمانية فحسب، بل باعتباره حصناً ورأس مال رمزياً قادراً على تعويض النقص لديهم، ووسيلة لإدخال كل أنماط المعنى ضمن الأفق المقدّس، خشية الذوبان أمام التيارات الثقافية الجارفة.
وهكذا، تحوّل الدين إلى ملاذ هويّاتي، يُستثمر في إنتاج سرديات تُشيّد للذات "العربية-الإسلامية" حضوراً موازياً لما فقدته من عمق حضاري تاريخي.
حركة التدوين
ومن اللافت، أنّ الإرادة السياسية في تدوين الحديث، رغم انتشار الروايات المكذوبة، لم تتجلَّ بصورة رسمية إلّا في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، الذي وجَّه إلى عامله على المدينة أبي بكر بن حزم الأمر بجمع ما تفرق من حديث النبي عليه الصلاة والسلام؛ وسرعان ما تحوّل الأمر إلى ممارسة منتظمة أوسع، بفضل شخصية محمد بن شهاب الزهري، الذي مثّل النقلة النوعية من الذاكرة الشفوية إلى التدوين المكتوب، جامعاً ما تيسّر له من مرويات وأقوال للصحابة دون تصنيف أو تبويب منهجي(5).
وختاماً، انفجرت حركة التدوين في مراكز متفرقة من العالم الإسلامي: بمكة عند ابن جريج وابن إسحاق، وفي المدينة مع سعيد بن أبي عروبة والربيع ومالك، وفي البصرة مع حماد، وفي الكوفة مع الثوري، وفي الشام مع الأوزاعي. ثم جاء القرن الثالث الهجري ليشهد ما يشبه لحظة التأسيس الكبرى، فقد نُسجت المسانيد كمسند أحمد بن حنبل وابن راهويه، ثم اكتمل المسار مع الصحاح التي وُضعت على يد البخاري ومسلم، قبل أن يتبلور جهد منهجي آخر في "السُّنن" التي صنفها أبو داوود والنسائي وابن ماجه والترمذي.
الهوامش
1 - ابن حجر العسقلاني: لسان الميزان، ج6، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ص266.
2 - السيوطي: اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، ج1، دار الكتب العلمية، بيروت، ص297.
3 - أخرجه الترمذي في سُننه: كتاب المناقب، باب مناقب مالك بن أنس، حديث رقم 2681، وقال: «حديث حسن صحيح»، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1395هـ/1975م، ج5، ص48.
4 - ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة، ج1، دار المعرفة، بيروت، 1952، ص49.
5 - ورد في صحيح البخاري: كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، حديث رقم 1187 حسب بعض الطبعات، أنّ الخليفة عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم: "انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء"، وهذه الرواية تعدّ من أهم الشواهد التاريخية على أول أمر رسمي بجمع الحديث.
أمّا دور محمد بن شهاب الزهري (ت 124هـ/742م) فقد وثّقه الذهبي في تذكرة الحفاظ، ج1، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت 1998، ص105.