عند دراسة القصص القرآني عموماً، وقصص الأنبياء بوجه خاص، يظهر أن اختيار المكان لبعثة نبي ليس أمراً عشوائياً، بل فعل إلهي مرتبط بحكمة مخصوصة، ومحددة، تضع الرسالة في بيئة جغرافية واجتماعية معينة، بحيث يكون المكان جزءاً من التحدي الرسالي نفسه.
بهذا المعنى، يُظهر القرآن الكريم علاقة وطيدة بين المكان والنبوة، فالأنبياء لم يُبعثوا في فراغ، بل في "أمكنة محددة" لها خصائصها وتحدياتها. إذ إن اختيار الله سبحانه وتعالى لكل نبي ليكون في مكان محدد لم يكن عشوائياً، بل كان يتناسب مع طبيعة رسالته والتحديات التي كان عليه مواجهتها. فكل بيئة جغرافية أو اجتماعية كانت تحمل في طياتها تحديات فريدة، كان على النبي أن يتعامل معها بحكمة وصبر.
قصص الأنبياء
عند التأمل في قصص الأنبياء، نلاحظ أن المكان ليس عنصراً عارضاً، بل جزء من البنية النبوية ذاتها؛ فاختيار الله لمكان بعينه لبعث نبي فيه يرتبط بحكمة إلهية، سواء لإظهار المعجزة، أو لاختبار الإيمان، أو لتحقيق انتقال حضاري.
كما أن الأمكنة تصبح جزءاً من رسالة النبي نفسه؛ إذ تتحول إلى محطات في مسار الهداية، وتبقى في الوعي الديني كرموز للحق والصبر والجهاد. وهذا التلازم يمكن قراءته على عدة مستويات:
1 - تحديات الطبيعة الجغرافية والاجتماعية:
كأمثلة على هذه التحديات، يأتي قوم نوح وقوم لوط:
من جهة، قوم نوح وخصائص البيئة؛ عاش قوم نوح في بيئة مادية، لا يرى فيها الناس إلا القوة المادية والجبروت. تحدي نوح لم يكن فقط في الدعوة إلى التوحيد، بل في مواجهة قومه الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أصحاب الحصون المنيعة والقدرة على مواجهة قضاء الله. فكانت النهاية أن عاقبهم الله بـ"الطوفان"، وهو تحدٍّ طبيعي يتناسب مع بيئتهم، حيث أصبحت المياه التي اعتادوا عليها وسيلة للهلاك، لتثبت أن قوة الله أعلى من أي قوة مادية. يقول سبحانه: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيۡنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡماً عَمِينَ﴾ [الأعراف: 64].
من جهة أخرى، قوم لوط وفساد المكان؛ كان المكان الذي عاش فيه قوم لوط (سدوم وعمورة)، يشتهر بفاحشة لم يسبق لها مثيل. تحدي لوط لم يكن فقط في دعوة الناس إلى الإيمان، بل في محاربة "فساد اجتماعي" ترسخ في المكان وأصبح جزءاً من هويتهم. هذا الفساد كان يمثل تحدياً كبيراً، لأنه لم يكن سلوكاً فردياً، بل عادة جماعية. فكانت العقوبة أن جعل الله "عاليَ قراهم سافلها"، وهي عقوبة مكانية بامتياز، ترمز إلى انقلاب الفطرة السليمة في المكان ذاته. يقول تعالى: ﴿وَلُوطاً إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنۡ أَحَدٖ مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأعراف: 80]. ومن ثَم، كان الحساب الإلهي، كما في قوله عزَّ وجل: ﴿فَأَنجَيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥٓ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ ٭ وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهِم مَّطَرٗاۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ﴾ [الأعراف: 83-84].
2 - تحديات السلطة والجاه:
كأمثلة على هذه التحديات، يأتي فرعون وقوم عاد:
من جهة، موسى وفرعون في مصر؛ كانت مصر في عهد فرعون رمزاً للقوة السياسية والعسكرية. تحدي موسى لم يكن فقط في دعوة فرعون، بل في مواجهة نظام حكم بأكمله، يستغل الناس ويعبد نفسه من دون الله. كان فرعون يملك القوة والسحر والمال، ولهذا كانت معجزة موسى تتناسب مع هذا التحدي: "العصا التي تحولت إلى ثعبان واليد البيضاء"، وهي معجزات بصرية أظهرت ضعف سحر فرعون أمام قوة الله. كان المكان هنا (مصر)، مليئاً بالثروات والجاه، فكانت نهاية فرعون؛ ليثبت أن قوة الله تفوق أي قوة بشرية. يقول تعالى: ﴿فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقٖ كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِيمِ ٭ وَأَزۡلَفۡنَا ثَمَّ ٱلۡأٓخَرِينَ ٭ وَأَنجَيۡنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓ أَجۡمَعِينَ ٭ ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ ٭ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [الشعراء: 63-67].
من جهة أخرى، هود وقوم عاد في الأحقاف؛ كان قوم عاد يتمتعون بقوة جسدية وبناء شاهق، كما ذكر القرآن، في قوله عزَّ وجل: ﴿فَأَمَّا عَادٞ فَٱسۡتَكۡبَرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَقَالُواْ مَنۡ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًۖ أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَهُمۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَجۡحَدُونَ﴾ [فصلت: 15]. وكانوا يسكنون الأحقاف، وهي مكان يوحي بالرسوخ والقوة. تحدي هود كان في مواجهة الغرور والقوة التي ظنوا أنها تحميهم من أي عقاب. فكانت النهاية أن أهلكهم الله بالريح العقيم، وهي قوة من الطبيعة لا يمكن لمبانيهم الشاهقة أو قوتهم الجسدية أن تمنعها. يقول عزَّ من قائل: ﴿فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا صَرۡصَرٗا فِيٓ أَيَّامٖ نَّحِسَاتٖ لِّنُذِيقَهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَخۡزَىٰۖ وَهُمۡ لَا يُنصَرُونَ﴾ [فصلت: 16].
3 - تحديات المكان الرمزي:
النبوة في القرآن الكريم ليست منفصلة عن المكان؛ إذ غالباً ما تأتي الرسالات مرتبطة بمواقع محددة، سواء باعتبارها مهد الرسالة أو ساحة الدعوة أو مسرح المواجهة مع الأقوام. فالأنبياء بُعثوا في أماكن لها سمات خاصة، وأحياناً جاءت معجزاتهم مرتبطة ببيئاتهم الطبيعية والاجتماعية؛ بما يعني أن تحديات متعددة تتولد عبر هذه البيئة.
وأهم الأمثلة على مثل هذه التحديات، هو مكة المكرمة:
إذ كانت مكة مكاناً له قدسيته لدى العرب قبل الإسلام، حيث كانت تحتوي على الكعبة. تحدي النبي محمد عليه الصلاة والسلام لم يكن فقط في دعوة أهل قريش، بل في تطهير هذا المكان المقدس من الأصنام والشرك، وإعادة بنائه على أساس التوحيد. كان على النبي أن يواجه قريش التي كانت ترى في الكعبة مصدراً لقوتها الاقتصادية والسياسية. الهجرة من مكة إلى المدينة كانت أيضاً تحدياً مكانياً، حيث كان عليه أن يترك المكان الذي يحبه، وأن يبدأ رسالته من مكان جديد، ليثبت أن الإيمان لا يقتصر على مكان، بل هو رسالة عالمية. يقول تعالى: ﴿وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا﴾ [الإسراء: 81]. وبالطبع، فإن هذه الآية الكريمة تؤشر إلى نهاية عهد الشرك وبداية عهد التوحيد، وهذا ما تحقق عند تطهير الكعبة من "الأصنام".
وختاماً، يمكن القول إن هذه الأمثلة تُظهر أن المكان في قصص الأنبياء لم يكن مجرد خلفية ثابتة، بل كان عنصراً ديناميكياً يحدد طبيعة التحديات التي يواجهها النبي. سواء كانت تحديات طبيعية، أو اجتماعية، أو سياسية؛ فإن المكان كان جزءاً لا يتجزأ من الصراع بين الحق والباطل، وكان شاهداً على قدرة الله في نصرة رسله، وإهلاك الظالمين في ديارهم.