النزعة الإنسانية:

المقصد الديني في رمزية الاستخلاف

مركز حوار الثقافات

28-09-2025

في ظلّ الوضع المأزوم على مستوى الخطاب الديني وهيمنة العقل الأصولي المتشدد، فإن نبرة الكراهية ومفاهيم "الاستعلاء الإيماني" تبرز بقوة، بينما تلح على فكرة التمايز والفصل بين البشر، ووضع حواجز أو بالأحرى فرض تراتبية، تحقق ثنائية السلطة بالمعنى الرمزي والمعنوي كما المادي، مقابل الطاعة والهيمنة والإذعان. فالسلطة التي تؤسِّس لها الجماعات الماضوية، بالشكل الفئوي المؤدلج، تنبني على خطابات قمعية ليست فيها رؤية تداولية لقيم إنسانية وأخلاقية كونية، إنما أحكام تشريعية قسرية. 

الاستخلاف والأنسنة 

لهذا، تتمّ مصادرة الخطاب القرآني الذي هو في جوهره، ليس مجرد نصّ تشريعي أو ديني محض، إنما إلى جانب ذلك كله بنية معرفية عميقة تهدف إلى إعادة صياغة وعي الإنسان بذاته، ووجوده، والعالم، على جملة مشتركات كونية. من ثَم، تبرز قضية "الأنسنة" باعتبارها محوراً أساسياً لفهم مقاصدية الرؤية القرآنية للكون والإنسان. بعبارة أخرى، يُعنى الوحي ببلورة تصور متكامل وشمولي لكرامة الإنسان التي تنبع من كونه "خليفة في الأرض"، الأمر الذي يفرض عليه مسؤولية أخلاقية ووجودية.

المركزية التي حظي بها الإنسان في الخطاب القرآني، تُشير إليها آيات تكريم الإنسان والتسخير؛ إذ سخّر الله له ما في السماوات والأرض، ونفخ فيه من روحه، وعلّمه الأسماء كلها. وهذه الامتيازات مشروطة، حتماً وحكماً، بالوعي، والفعل، والمسؤولية. فالإنسان، على هذا الأساس والتصور القرآني، لا يعدو كونه مجرد كائن طبيعي، وظيفي، مؤقت، إنما له الجانب الميتافيزيقي الروحي الذي يلامس المطلق، بما يؤشر إلى معطى العقل المحايث له، ولقدراته، في إحداث طفرة إيجابية وتطورية بالأرض والكون تشمل قيم الأخوة، والعدالة، ومن خلال إمكانات الحرية، والاختيار.

بالتالي، فإن مفهوم الأنسنة في القرآن يحفر في أعماق المعنى الأنطولوجي لوجود الإنسان نفسه. ذلك ما ينفي المحاولات الاستعمالية له من القوى والجماعات الأصولية المتشددة، ورؤيتها السلفية الجامدة، وتوظيف رمزية "الاستخلاف"، بما يحقق سلطة تعسفية على باقي البشر. فتتقاطع الأنسنة مع الأخلاق؛ إذ إنه كلما كان الإنسان أكثر إنسانية، يتحقق الوعي الكامل بمسؤولياته تجاه الكون، والآخرين، وذاته.

الهرمنيوطيقا القرآنية

مقاربة الأنسنة من منظور هرمنيوطيقي (تأويلي)، كذلك، تفتح آفاقاً عديدة ومغايرة لفهم النص القرآني، بعيداً عن الأحكام النهائية والمقولات الثابتة، والسياقات التفسيرية الحرفية التي لا تعطي أولوية، أو تأخذ بعين الاعتبار "بيئة النص وشروط التشكل". فهذه المقاربة هي التماس دينامية النص الذي يُخاطب الإنسان في كل زمان ومكان. إذ إن التأويل هو "إعادة بناء المعنى في سياق الواقع الإنساني المتجدد". ومن ثَم، محاولة إخراج الخطاب القرآني من قوالبه التقليدية، وتقديمه كفلسفة شاملة للوجود الإنساني. فالقرآن، بوصفه نصاً مؤسِّساً للحضارة الإسلامية، هو خطاب غير فئوي، بل إنساني وكوني. يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ...﴾ [الإسراء: 70]. وهذه الآية تحمل مشروعاً إنسانياً متجاوزاً الانقسامات الدينية أو العرقية أو الجغرافية.

كما أن الشريعة الحقة التي لا يمكن أن تتناقض والحكمة، بينما مقصدها الأعظم هو خدمة "المصلحة الإنسانية"، وفق كتاب "فصل المقال"، لابن رشد، بما يعني أن فهم النصّ ينبغي أن ينطلق من مقاصده الكبرى التي تتمحور حول العدل والرحمة والقسط. وذلك ما خلص إليه الفارابي في مشروعه الفلسفي وتدشين "المدينة الفاضلة" على مبادئ إنسانية تتجاوز العصبيات. فقد صوّر الفارابي الإنسان كائناً اجتماعياً لا يتحقق كماله إلا بالعيش المشترك والقبول بالتعددية -ليس على مستوى الميول والأمزجة والبشر، إنما كذلك في الوصول إلى معنى الإيمان ومقاربة الدين- في جماعة يسودها التعاون على الخير والحق والجمال. 

ويمكن أن نجد صدى لذلك في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ...﴾ [الحجرات: 13]. فالغاية القرآنية، هنا، في "التعارف"، بوصفه مفهوماً يضمر اعترافاً متبادلاً بالكرامة الإنسانية.

ويقول عبد الجبار الرفاعي في كتابه "الدين والكرامة الإنسانية"، إنه لا يمكن أن يظل الإيمان حالة خاملة أو كسولة أو مضمرة لا أثر لها في حياة الإنسان، فـ"الإيمان يكرس الحياة الروحية والأخلاقية، الإيمان يتجسد في مواقف إنسانية نبيلة. الإيمان تتسامى فيه شخصية الإنسان فيتخذ شكل تديُّنٍ رحماني وأخلاقي. كل إيمان يكشف عن حضوره العملي في تديِّن الإنسان، كل إيمان يتحقق في تديُّن، وإن لم يكن كل تديُّن مرآةً ينعكس فيها الإيمان الأصيل، ‏التديُّنُ الشكلي والشعبوي يضمحلُّ فيه الإيمان المُلهِم لأجمل معاني الحياة".

النزعة الإنسانية 

وقد ألحَّ الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسيره للقرآن، على أن النص القرآني يخاطب العقل والضمير الإنساني قبل أن يخاطب الطقوس والعادات. فنهضة العقل المسلم ضرورة ليشارك بفعالية في حركة التاريخ والتمدّن. فرسالة الإسلام "عقلية أخلاقية" قوامها الحرية والعدالة. وهي رؤية ديناميكية للإنسان المُخاطَب بالقرآن في صيرورته التاريخية. فالقرآن يحرّك الوعي الإنساني باتجاه التحرر والانفكاك من القيود الجامدة. كما أن "الإنسان الكامل" في التصور القرآني هو الذي يبدع ويشارك في عمران العالم. هنا، يتقاطع هذا الفهم مع معنى "الاستخلاف"، في قوله سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَٰٓئِفَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ...﴾ [فاطر: 39]، بما يحيل إلى المسؤولية الكونية للإنسان.

ومن منظور مقاصدي، لا يمكن اختزال النص القرآني في تفاصيل تشريعية متفرقة، بل ينبغي قراءته باعتباره مشروعاً متكاملاً يؤسِّس لمبادئ عامة، كالعدالة، والحرية، والمساواة، والأخوة، والرحمة. إذ تتجلّى قدرة القرآن على تجاوز الطائفية والتمييز الماهوي، فمعيار التفاضل هو التقوى لا الهوية أو الانتماء. 

وحسب عبد الجبار الرفاعي، فالمقصد الأعلى للقرآن هو "تحرير الإنسان من كل أشكال الاستعباد"، سواء كانت ميتافيزيقية أو سلطوية أو اجتماعية. وهذا المعنى يجد جذوره في قوله تعالى: ﴿... وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ...﴾ [الأعراف: 157].

ومن أبرز تجليات النزعة الإنسانية في القرآن التأكيد على مبدأ الأخوة الإنسانية. فالقرآن يستخدم تعبير "يا أيها الناس" إلى جانب "يا أيها الذين آمنوا"، في إشارة إلى أن الخطاب موجه للإنسانية دون استثناء. كما أنه يقرر وحدة الأصل البشري: ﴿... خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ...﴾ [النساء: 1]. هذا التأسيس القرآني للأخوة يعكسه عملياً مبدأ التواصل. فالقرآن لا يضع البشرية في حالة قطيعة، بل يدعو إلى الحوار والجدال بالتي هي أحسن: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ...﴾ [النحل: 125]؛ وهو ما يجعل النصّ القرآني أفقاً رحباً قائماً على وشائج التعددية والتشاركية والتواصل للحوار بين الثقافات والأديان، متجاوزاً النزعات الانغلاقية وخطابات الكراهية.

وختاماً، فالنزعة الإنسانية القرآنية ليست مجرد خطاب وعظي، لكنها المتن الرئيس الذي يموضع الإنسان في مركز الكون، بينما تؤكد حريته ومسؤوليته، وتمنحه كرامة لا تُختزل في هوية أو انتماء. هذا التنوير القرآني هو ما يبدو ضرورة معاصرة راهنة ومستقبلية، لتبديد وتصفية النزعات الطائفية والعُنفية. فالقاسم المشترك بين الجهود الإصلاحية والتنويرية بكل مقارباتها، هو أن إصلاح المجتمعات لا يتم إلا بتحرير العقل من الجمود، ونهضة المسلمين مشروطة بوعيهم بدورهم التاريخي. وذلك على أساس رؤية تكاملية بين الدين والعقل والضمير في خدمة الأصل الإنساني. فالمحبة والأخوة والتفاهم والتواصل كلها جوهر العلاقة بين الإنسان والوجود، بل "مقصد الدين" الأول، كما تكرر في المقاربات الفلسفية التنويرية والإصلاحية.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

معركة ذي قار: مقدمات الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس

30-01-2025

اتجاهات ثقافية

الحور العين: اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة

01-09-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

دليل التدين العقلي: عقلنة الدين لأجل الإصلاح الجذري

20-11-2024

قراءات عامة

خليد بنعكراش: القواعد "الست" في فهم وتأويل القرآن

01-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة