خطاب المظلوميّة:

الهوية الدينية والتوظيف السياسي الشيعي

مركز حوار الثقافات

06-10-2025

يمكن النظر إلى أدلجة الحديث عند الشيعة بوصفها عملية "تاريخية/سياسية"، مثّلت استجابة ظرفية لواقع الصراع على السلطة في صدر الإسلام. فكما سعى الأمويون إلى إنتاج خطاب "ديني/سياسي" يمنحهم شرعية في الحكم، وجد الشيعة أنفسهم في مواجهة مفتوحة، تقتضي بناء أيديولوجيا مضادة، ترتكز على توظيف النصوص الدينية، وإعادة تأويلها بما ينسجم مع حاجتهم لتأسيس شرعية بديلة.

كان الصراع منذ البداية صراعاً على السلطة أكثر منه صراعاً على العقيدة؛ إذ انطلقت الشرارة الأولى عقب وفاة النبي، عندما أبدى بنو هاشم امتعاضهم من مبايعة أبي بكر الصديق في السقيفة، معتبرين أنّ لهم الأَوْلويّة بالنظر إلى قرابتهم للرسول. غير أنّ هذا الخلاف ظلّ خامداً تحت الرماد نحو ربع قرن، إلى أن انفجرت أحداث الفتنة الكبرى بمقتل الخليفة عثمان؛ حيث وجد التشيّع في تلك اللحظة التاريخية أرضية خصبة، ليتحول من موقف "سياسي/اجتماعي"، إلى خطاب أيديولوجي مؤسس على رؤية دينية مغايرة.

البناء الأيديولوجي

ومثّلت واقعة كربلاء نقطة الانعطافة الكبرى؛ إذ انتقل التشيع من مجرد تعبير عن مشايعة سياسية لآل البيت، إلى حالة "وجدانية/رمزية"، عمّقت النزعة الأيديولوجية وجعلتها أكثر التصاقاً بفكرة "المظلومية" و"الحق المسلوب". ومن هنا، أصبح لزاماً على الحركة الشيعية أن تبحث عن شرعية معرفية ودينية تستمدها من النصوص، كي تحوّل المظلوميّة من الاحتجاج السياسي إلى هوية دينية متماسكة.

بهذا المعنى، لم يعد الحديث النبوي مجرد نصّ تعبدي أو وعظي، بل تحوّل إلى مادة للتأويل والتوظيف الأيديولوجي. فتمّت إعادة صياغة الأقوال النبوية، والخطب العلوية، في إطار يضمن للحركة الشيعية تأسيس قاعدة "معرفية/لاهوتية"، قادرة على الصمود أمام الشرعية الرسمية التي تبنّاها الأمويون، ومن بعدهم العباسيون. وبذلك غدت الرواية أداة لبناء هوية جماعية، وآلية لتقنين الصراع وتبرير المعارضة، حيث تداخل السياسي مع الديني، واندمج العاطفي بالمعرفي، لتتشكل في النهاية منظومة خطابية تستجيب لحاجة تاريخية هي مقاومة السلطة القائمة، وتأكيد حق آل البيت في الخلافة.

تمثلت نقطة الارتكاز الجوهرية في البناء الأيديولوجي للحركة الشيعية، في إبراز الخصائص الاستثنائية للإمام علي، بوصفه كائناً متفرداً يحمل سمات القداسة والاصطفاء الإلهي. وقد جرى تثبيت هذه الخصائص وإعادة إنتاجها عبر منظومة من الروايات المنسوبة إلى النبي، مثل ما روي عن أم سلمة أنَّها قالت لأبي ثابت: "يا أبا ثابت أين طار قلبك حين طارت القلوب مطيرها؟ قال: تبع علياً، قالت: وُفِّقت. والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله يقول: عليّ مع الحقّ والقرآن، والحقّ والقرآن مع عليّ، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض"(1). 

الهوية الدينية

ولم يكن مفهوم الأئمة الاثني عشر عند الشيعة مجرد تحديد عددي اعتباطي، بل يمكن النظر إليه باعتباره بناءً رمزياً يستهدف إضفاء طابع "قدسي/ماورائي" على الإمامة، عبر ربط الرقم "12" بنسق ديني أوسع، يشمل الديانات الإبراهيمية الثلاث. فالمسيحية تتحدث عن اثني عشر حوارياً للمسيح، فيما تشير التوراة في سفر التكوين إلى اثني عشر سبطاً لبني إسرائيل، وبذلك يصبح الرقم ذاته قاسماً مشتركاً عابراً، يمنح فكرة الإمامة بعداً مقارناً يُرسّخ شرعيتها ويُدرجها في إطار سردية دينية متصلة، لم تستثن الرسالة الخاتمة؛ فوفقاً لما أورده البخاري عن جابر بن سمرة، قال: "يَكونُ مِن بَعدي اثنا عَشَرَ أميراً، فتَكَلَّمَ فخَفِيَ علَيَّ، فسألتُ الذي يَليني، أو إلى جَنْبي، فقالَ: كُلُّهم مِن قُرَيشٍ"(2).

ولا مانع من خروج حديث يفصل ذلك الأمر، ويسمي الأئمة الاثني عشر بأسمائهم؛ فقد أخرج القندوزي بسنده عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله "يا جابر إنّ أوصيائي وأئمة المسلمين من بعدي أولهم علي، ثم الحسن، ثم الحسين ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف بالباقر، ستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، ثم جعفر بن محمّد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمّد، ثم الحسن بن علي، ثم القائم اسمه اسمي، وكنيته كنيتي محمد بن الحسن بن علي، ذلك الذي يفتح الله تبارك وتعالى على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان"(3).

كما ظهرت الروايات التي تطعن في بني أمية، كرد فعل لما قام به الأمويون من اختلاق روايات تطعن في علي وبنيه؛ ومن أمثلة ذلك ما روي عن رسول الله، أنّه قال: "لكل أمة آفة، وآفة هذه الأمة بنو أمية"(4). أو تلك الرواية التي تقول: "إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه"(5).

الصراع السياسي 

قامت البنية المعرفية للدعوة الشيعية على فرضية مركزية مفادها أنّ "الحديث الصحيح لا يُحتكر إلا في دائرة آل البيت"، باعتبارهم الورثة الشرعيين للمعرفة النبوية. وقد تأسّست هذه الفرضية على زعم أن آل البيت كانوا السبّاقين إلى تدوين الحديث منذ اللحظة الأولى، وأنّ ما امتلكوه من "صحائف ثمينة" يمثل الحقيقة المطلقة، لكونها خلت -حسب التصور نفسه- من أي فجوة زمنية، بين لحظة صدور الحديث وتدوينه. 

وقد تمحور هذا النسق القداسي بصورة شبه كلية حول "صحائف علي بن أبي طالب"، وعلى وجه الخصوص حول الكتاب المنسوب إليه، الذي يُقال إنه أخرجه بعد توليه الخلافة، ليصبح بذلك المرجعية الأولى التي تمنح التشيع مشروعيته النصية والدينية، وتؤسس له خصوصية معرفية في مواجهة روايات المدارس الأخرى. 

فعن عذافر الصيرفي قال: كنت مع الحكم بن عيينة عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر، فجعل يسأله، وكان أبو جعفر له مكرماً فاختلفا في شيء. فقال أبو جعفر: يا بنيّ، قم، فأخرج كتاب عليّ، فأخرج كتاباً مدرجاً عظيماً ففتحه، وجعل ينظر حتى أخرج المسألة. فقال أبو جعفر: هذا خطّ عليّ وإملاء رسول الله، وأقبل على الحكم وقال: يا أبا محمد، اذهب أنت ومسلمة المقداد حيث شئتم يميناً وشمالاً، فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل(6).

وهكذا اندفع التيار الشيعي إلى تشييد منظومته عبر آلية موازية لروايات المذاهب الأخرى، ليؤسس من خلالها صرحاً "دينياً/سياسياً"؛ وقد تميّز في هذا المضمار بوفرة الرواة الذين تجاوز عددهم -حسب المصادر- أربعة آلاف راوٍ، جرى تصنيفهم حتى عهد الإمام جعفر الصادق (83-148هـ)، في ثلاث طبقات متمايزة. وقد شكّلت هذه المرحلة ذروة ازدهار الرواية الحديثية عند الشيعة، تزامناً مع اشتداد الصراع السياسي والفكري مع الأمويين، إلى حين سقوط دولتهم وبدء انتقال مركز الصراع إلى الدولة العباسية، ابتداءً من عام 136هـ، الأمر الذي أتاح للحركة الشيعية توظيف هذا التراث في تعزيز شرعيتها السياسية وتكريس هويتها العقدية.

السياسة والدين

وقد ظهرت إبان ذلك الأصول الأربعمائة في مجال الأحكام والتشريعات الإسلامية الأخرى، ثمّ تمّ جمعها على عهد الرضا في أربعة كتب، ظلّت لفترة طويلة مرجعاً للشيعة في مسائلهم وأحكامهم، توجه أيديولوجيتهم في الصراع المحتدم مع أعدائهم، وتحفظ هويتهم من الذوبان.

ثم جاء رواى الحديث الأشهر عند الشيعة، وهو الكليني، والذي يعتبر من كبار محدثي الشيعة في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري والنصف الأول من القرن الرابع الهجري، وهو العصر الذي يمكن أن نطلق عليه "عصر الحديث"، حيث ألّف كتابه (الكافي)، الذي ينقسم إلى ثلاثة أقسام (الأصول، الفروع، الروضة)، ليصبح مرجعية شيعية تؤطر في سياقها كافة التمثلات الدينية والتصورات المذهبية، وتوجه تابعيها أينما شاءت.

ثم جاء من بعده ابن بابويه، صاحب كتاب من لا يحضره الفقيه، ثم الشيخ الطوسي صاحب كتابي التهذيب والاستبصار، وغيرهم من المحدثين الذين وضعوا كتباً كثيرة ساعدت على استمرار النهج الشيعي في مواجهة الأيديولوجيات المعادية؛ حيث كان الصراع مع العباسيين، آنذاك، أشد وطأة على الشيعة، حيث فتك العباسيون بالآلاف من العلويين وأتباعهم، ولاحقوا أئمتهم، الصادق وولده موسـى بن جعفر، الذي مات في سجن الرشيد مسموماً؛ وفي عهد المتوكل العباسي لاقى الإمامان عليّ الهادي وولده الحسن العسكري الكثير من العسف، كما قام بهدم قبر الحسين بن عليّ.

ومن المشاهد التاريخية التي تعبر عن أسبقية السياسة على الدين، هو ما حدث من الخليفة المأمون، الذي قلد الإمام علي الرضا ولاية العهد، وقبل الرضا الشيعي ولاية العهد في الخلافة العباسية السنية(7). والأكثر غرابة من ذلك ما فعله البويهيون الشيعة الذين سيطروا على الخلافة العباسية السنية في القرن الرابع الهجري، فعندما استولت الدولة البويهية على مقاليد الحكم في بغداد، واستأثروا بالسلطنة، لم يسقطوا الخلافة السنية العباسية(8)؛ حيث فضلوا السيطرة على خلافة ضعيفة متداعية يسهل قيادتها والسيطرة عليها، بدلاً من تسليم الأمر لقيادة شيعية من آل البيت تستأثر بالسلطة من دونهم.

ويبدو أنّ البعد الزمني شكّل المرتكز الأساس في الأطروحة الشيعية؛ إذ جرى تسويغ الأحقية والقدرة على مواجهة الآخر، من خلال ما اعتُبر أسبقية زمنية في جمع الحديث وتدوينه. فقد نُظر إلى "صحف الإمام علي" بوصفها النصّ الأول، في مرحلة كان فيها المسلمون يُمنعون من التدوين؛ ومن ثمّ، رُبط بين هذا الكتاب المزعوم، وبين الأصول الأربعمائة، التي جُمعت لاحقاً وصيغت في أربعة كتب، إضافة إلى ما راكمته المرجعيات الشيعية المتعاقبة من نصوص وروايات صبغت حضورها بمشروعية مزعومة في مواجهة الخصوم. 

وختاماً، كان الصراع السياسي هو المحرّك الأساسي لاختلاق خطاب ديني متدثّر بشرعية وهمية، تستند إلى الحديث النبوي، بهدف تسويغ توجهات السلطة القائمة وإضفاء طابع قدسي عليها، في حين سرعان ما لجأت جماعات المعارضة إلى السلاح ذاته. وبذلك تحوّل المشهد إلى سجال "جدلي/ديني" أقرب إلى السفسطة، يُثبت الشيء ونقيضه في آنٍ واحد، متكئاً على رواية مؤدلجة يدّعي صاحبها تمثيل إرادة السماء.


الهوامش

1 – الزمخشري، ربيع الأبرار، 1 / 828.

2 - أخرجه البخاري (7222، 7223)، ومسلم (1821) باختلاف يسير.

3 - عبد الله الغريفي، التشيع: نشوؤه - مراحله - مقوماته، دار الثقلين، د.ت، ص 574. 

4 - نعيم بن حماد المروزي، كتاب الفتن، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004، ص 81.

5 – الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 3، مؤسسة الرسالة، ص 145.

6 - عبد الهادي فضلي، أصول الحديث، الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، 1993، ص 46.

7 - ماجد زبيدي، قصص المعصومين، منشورات الفجر، 2006، ص 471.

8 - وفاء محمد علي، الخلافة العباسية في عهد تسلط البويهيين، المكتب الجامعي الحديث، 1991، ص 6.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

معركة ذي قار: مقدمات الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس

30-01-2025

اتجاهات ثقافية

الحور العين: اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة

01-09-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

دليل التدين العقلي: عقلنة الدين لأجل الإصلاح الجذري

20-11-2024

قراءات عامة

خليد بنعكراش: القواعد "الست" في فهم وتأويل القرآن

01-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة