يمكن الاشتباك مع مفهوم القربان في الإسلام، بوصفه حدثاً طقسياً عابراً للتاريخ، ضمن نموذجين رئيسيين: الأول، يرى أنّ القربان بمثابة فداء يدفع الشر عن الإنسان؛ والثاني، يذهب تجاه السببية، عبر التماهي مع الواقع "الطبقي/الاجتماعي"، باعتبار القربان أداة وظيفية تؤدي إلى تماسك المجتمع من خلال نصيب الفقراء من الذبيحة. ويحاول النموذج الأول محاكاة الدافع البشري القديم، الذي أدى إلى ظهور القربان في التاريخ؛ في حين يتكفل الثاني بالإجابة عن سؤال السبب.
قربان الدم
لقد عرف الإنسان قربان الدم منذ البدء؛ تقرباً للآلهة، ودرءاً لغضبها. ففي الأساطير القديمة سفَك جلجامش ورفيقه إنكيدو أول قربان أمام إله الشمس (شمش)، فبعد قتلهما ثور السماء انتزعا قلبه ووضعاه أمام شمش قرباناً، ثمّ تراجعا وسجدا(1).
ويمكن القول إن عملية التضحية بالدم ارتكزت على مسوغات دينية ونفسية، سجلت حضوراً لافتاً في أساطير الحضارات القديمة، بل وتجلت القرابين البشرية باعتبارها طقساً دينياً يُعبر عن رغبة المتدين في استمالة الآلهة، إمّا لدفع الضرر، وإمّا للطمع في هبة، وإمّا تطهير النفس من الذنوب(2)؛ وهو ما يطرح تصوراً أوضح حول علاقة الاحتياجات النفسية بتشكيل الذاكرة الجمعيّة.
الرؤيا الإبراهيمية
هذه العادة الطقوسية القديمة لم تتخلص منها التوراة، ولعل قربان الرؤيا الإبراهيمية يمثل تحولاً تاريخياً بفعل الاستبدال؛ وبالتالي الدخول إلى مرحلة جديدة، عوض فيها دم الحيوان دم الإنسان؛ "إذ يرمز المشهد الذي يصور إبرام (إبراهيم)، وهو يستعد للتضحية بابنه -إسحاق في اليهودية، وإسماعيل في الإسلام- إلى العلاقة الدالة على الخضوع لأوامر الإله، وهي اللحظة ذاتها التي تشير إلى تخلي اليهود ثم المسلمين عن التضحية الإنسانية"(3)؛ وهو أمر بشرت به اليهودية في سفر التكوين، عندما قدّم كل من قايين "قابيل" وأخوه هابيل قرباناً للرب: "وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَيَّامٍ أَنَّ قَايِينَ قَدَّمَ مِنْ أَثْمَارِ الأَرْضِ قُرْبَانا لِلرَّبِّ • وَقَدَّمَ هَابِيلُ أَيْضا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ سِمَانِهَا. فَنَظَرَ الرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ • وَلَكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ"(4).
ويمكن القول إنّ التوراة وضعت قاعدة مركزية لاستشراف عملية استبدال القربان، وجعلت الاختيار إلهياً، لا دخل للإنسان فيه، فاختار الله قربان هابيل (الكبش) وفضله على ثمار الأرض، الأمر الذي نستخلص منه بنية مركزية عامة، هيمنت على مفهوم القربان، وألحقته بالدم المسفوك.
في اليهودية، أيضاً، كانت ظاهرة كبش المحرقة أو الفداء بالغة الأهمية، فكبش المحرقة هو ذلك الحيوان الذي حمّله اليهود كل خطاياهم، واعتقدوا أنّ ذبحه في المعبد يحررهم من ذنوبهم، ويجلب لهم الأمن والسلام(5). وهي الفكرة التي تجلّت مع المسيح، بوصفه القربان البشري الأخير؛ إذ كانت رمزية صلب المسيح دلالة على الرغبة في أن تكون الذبيحة التاريخية هي آخر قربان بشري لفداء الإنسان وتحريره من إثم خطاياه.
الذكر والأنثى
عرف العرب القربان البشري منذ القدم، فكان أهل دوما يذبحون في كل سنة إنساناً عند قدم الصنم، تقرباً إليه، وساق البعض أسرى الحرب إلى الإلهة قرابين بشرية(6)، في طقس ديني ترتد أصوله إلى الماضي البعيد. لكنّ تلك العادة تراجعت مع الوقت، وإن أطلّت في كتب السيرة برأسها، ضمن إرهاصات ميلاد النبي محمد.
ذلك أنّ ".. عبد المطلب بن هاشم نذر إن توافى له عشرة رهط (أي أعطاه الله عشرة أولاد)، أن ينحر أحدهم، فلما توافى له عشرة، أقرع بينهم أيهم ينحر (يذبح)، فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب والد الرسول، وكان أحب الناس إلى عبد المطلب، فقال عبد المطلب: اللهم هو أو مئة من الإبل، ثم أقرع بينه وبين الإبل، فطارت القرعة على المئة من الإبل"(7).
ولعل الأمر هنا يرتبط بذلك التمييز بين الذكر والأنثى في المجتمع العربي قبل الإسلام؛ ففي الوقت الذي تراجع فيه عبد المطلب عن نحر ابنه عبد الله تحت ضغط قريش، كان قربان الموءودة عند العرب سلوكاً يتماهى مع ما هو ديني واجتماعي، ويندرج ضمن معتقدات أسطورية لها ارتباطات بالتضحية بالبشر. فالوأد لم يكن كرهاً للأنثى أو خوفاً من العار، بل تقرباً للرب، تعيد به إليه ما أهداك من كنز، حتى يرضى عنك مرة أخرى، فقد اعتقد العرب أنّ كل أنثى بنت للرب "الملائكة، واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، وأنثى الإنس أيضاً"(8).
هذا المنحى التبريري، وإن جاء من منطلق ديني، يعكس حضور الاجتماع القوي في الدين، وتأطيره المسارات السردية المندرجة ضمن معطيات الطقس الديني.
ويمكن القول إنّ النحر في الفقه الإسلامي يُعد أحد أبرز تجليات الميثولوجيا القديمة، فهو يمثل طقس الأفعال التي يُراد من خلالها التقرب إلى الله، وفداء النفس أو الأبناء، ومن خلاله تنبثق سلوكيات تتلاءم مع أنماط التقاليد الموروثة، وتتولد منها سلوكيات أخرى تمتزج من خلالها ثقافة الاجتماع بالتطور الوظيفي للطقس، الذي يتشظى بدوره إلى جملة أفعال متداخلة مع الماضي، وذلك في إطار النسق الثقافي الحاضن للطقس والمنتج لأدواته.
أحكام العقيقة
كانت ذبيحة المولود من أبرز الطقوس التي عرفتها اليهودية لدفع القلق على حياة المولود، بتقريب ذبيحة إلى السماء. وكان اليهود يذبحون عن الولد فقط، أمّا البنت فلا يُذبح عنها. وهو ما عدّله الإسلام كما تروي السيرة: "اليهود تعق عن الغلام كبشاً، ولا تعق عن الجارية، فعقوا عن الغلام كبشين، وعن الجارية كبشاً"(9).
وكان طقس العقيقة معروفاً عند العرب قبل الإسلام؛ فقد روى أبو عمر وأبو القاسم بن عساكر عن ابن عباس قال: "لما وُلد رسول الله عقّ عنه جده بكبش وسماه محمداً". ويؤكد حديث أبي داوود أنّ العرب عرفوا العقيقة، فيقول: "كنا في الجاهلية إذا وُلد لأحدنا غلام ذبح شاة، ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح الشاة يوم السابع ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران"(10).
وتدل الرواية، إن صحت، على منع التلطيخ بالدم، وهي عادة ما زالت مستشرية إلى الآن.
مقاربة قرآنية
يمكن القول إنّ التعديل الأول بذبح كبشين عن الذكر، وكبش عن الأنثى، فيه تأثر واضح بالنص القرآني: ﴿لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ﴾، لكنّ ذلك الحكم الناجز يتنافى مع تدرج القرآن في إصدار الأحكام، ومنح المساواة للمرأة بالتدريج، وفق قاعدة حركة النص في التاريخ. لكنّ الأهم هنا أنّ القرآن حين تناول فداء إسماعيل بكبش عظيم، كما هو واضح في سورة الصافات: ﴿وَنَٰدَيۡنَٰهُ أَن يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ ٭ قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٭ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَٰٓؤُاْ ٱلۡمُبِينُ ٭ وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ﴾ [الصافات: 104-107]، فإنّه أغلق الباب أمام القربان البشري تماماً، ووضع البديل (الكبش) قاعدة يغلق بها الباب أمام تلك العادة البشرية. بينما سكت النص عن ذبيحة المولود، وجعلها ضمن حقل الاجتماع الإنساني، وعادات الناس وتقاليدهم.
وختاماً، لقد كان القرآن شديد الوضوح في ترك مساحة الاجتماع بلا قيود، وجعل من الذبيحة طقساً اجتماعياً لإدخال السرور على المحتاجين، ولا مانع من أن تعق عن الأنثى مثل الذكر، ولا عقوبة إن لم تفعل؛ فالأمر متروك للسياق والقدرة واحتياجات الآخرين. والغرض كلّه في نهاية الأمر هو التقوى من خلال الإحسان. يقول تعالى في سورة الحج: ﴿لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمۡ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾ [الحج: 37].
الهوامش
1 فراس السواح: قراءة في ملحمة جلجامش، العربي للطباعة والنشر، دمشق، 1987، ص156.
2 الأسعد العياري: الدم في الطقوس المقدسة، مؤمنون بلا حدود، ط1، بيروت، 2014، ص26.
3 نفسه: ص29.
4 سفر التكوين: الإصحاح الرابع / 3-5.
5 الحسن حما: طقس القربان في الأديان الوضعية والسماوية، مؤمنون بلا حدود، ط1، بيروت، 2014، ص15.
6 الأسعد العياري: المرجع المذكور، ص26.
7 فواز جنديب: مروان بن الحكم مؤسس الفرع المرواني في الدولة الأموية، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 2005، ص62.
8 الحسن حما: المرجع المذكور، ص67.
9 المباركفوري: تحفة الأحوذي، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت، ص85.
10 نفسه: ص85.